في الشخصية المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل نستطيع وصف ورصد وتحليل بعض سمات الخلل في تكوين الشخصية المصرية الآن؟

وهل يمكن الحديث عن شخصية قومية أو سلوك قومي كما كان الأمر في عصر القوميات، ومفهوم الأمة المتخيل؟ لماذا نطرح وآخرين هذه الأسئلة وغيرها الآن؟

ثمة نزعة غلابة تسيطر على خطابات المثقفين وأنصافهم والعاديين مهجوسة بسؤال ما الذي حدث لنا؟ لماذا تسيطر بعض السمات السلبية الضاغطة في مناحي تفكيرنا وسلوكنا الاجتماعي؟ حيث يبدو التنديد اللفظي بنزعة اللامبالاة بالمصالح العامة، والكسل والترهل والأنانية، وفقدان الدافعية للعمل الجاد واحترام النظام، والافتقار للمسؤولية وبعض النزعة الاكتئابية والتواكلية، إلى آخر هذه السمات السلبية الغالبة على تفكير بعض المصريين، وسلوكهم اليومي.

الحديث عن الشخصية المصرية لا يزال يعيد إنتاج بعض ملاحظات وكتابات سابقة عن سمات مائزة لها، من قبيل الوسطية في المواقف، وفى أنماط التدين، لاسيما الشعبي، والمواءمة بين الدين وطقوسه والولع بالحياة، والنزعة الفهلوية وفق ملاحظات حامد عمار في بناء البشر، أو بعض التحليل الذي يربط بين السمات السلبية والإيجابية، وبين التغير في النظام السياسي لدى السيد يسين، ودراسات جمال حمدان في شخصية مصر، ومصر ورسالتها لحسين مؤنس، والعقاد في مقدمة كتابه سعد زغلول سيرة وتحية، وكتابات جلال أمين حول ما الذي حدث للمصريين؟ وأخرى لأحمد زايد، ومحمود عودة، وآخرين.

ارتبطت الشخصية القومية في علم النفس الاجتماعي ببعض المفاهيم المتخيلة كالأمة والقومية، وتجسيداتها التاريخية في التجارب المقارنة أو في تجربة الحركة القومية المصرية، ويبدو أن التعامل مع هذا المفهوم وغيره كالسلوك القومى استمر مهيمنا على دراسات وملاحظات بعض الباحثين والمفكرين على أهميتها، لكن ظلت وكأن هذه المفاهيم لا تتغير، وأن قدرتها وكفاءاتها التفسيرية لا تزال قادرة على وصف وتفكيك وتحليل بعض مآثرنا الإيجابية التي تراجع بعضها، أو سماتنا الفكرية والسلوكية السلبية التي تكاثرت وتضخمت في ظل موت السياسة، وحتى بعد الانتفاضة الثورية المجهضة في 25 يناير 2001 وما بعد.

تشير ظواهر الغلو والتشدد والعنف إلى أن مفهوم الشخصية القومية الذي تراجع في الأدبيات النظرية غير قادر على تشخيص وتحليل بعض هذا التدهور في ثقافة وحياة وسلوك المصريين.

في تقديري أن تمدد السلبيات في بعض إدراكنا وسلوكنا والسمات النفسية لغالبية المصريين، يعود إلى عديد من الأسباب، نشير إلى بعضها في ما يلي:

1ـ موت السياسة ومتتالياتها وانعكاساتها على الثقافة السياسية المصرية من شيوع قيم الإجماع القسري والقمعي من أعلى، ونفي أو تهميش التعدديات والتنوع داخل الأبنية الدينية والمذهبية والاعتقادية والطقوسية لصالح التسلطيات السياسية والدينية والثقافية الرسمية، وغياب ثقافة الحوار والمشاركة المجتمعية على نحو يسمح بتنظيم وتطوير الحوار العام حول القضايا والمشكلات، ويؤسس لبناء توافق عام حول مفاهيم المصلحة العامة والتوازن بين المصالح الاجتماعية والاقتصادية والرمزية المتصارعة، وتشكيل رأسمال ثقافي وسياسي حول القيم السياسية الجامعة التي تشكل الرضا العام الذي يؤسس للشرعية السياسية ويجدد مصادرها.

خلال أكثر من ثلاثة عقود هيمنت مصالح بعض أجهزة الدولة والثقافة الفئوية وتمددت من خلال بعض المزايا والحصانات تمييزاً لها عن غيرها من بعض الفئات الاجتماعية، والوظائف الأخرى.

لا شك أن ذلك أدى إلى نمو النزعة الفئوية الضيقة ومصالحها، ومن ثم أثر ذلك سلباً في مفهوم المصالح العامة الذي يعلو فوق الفئويات والانتماءات المشتركة التي تشكل الحد الأدنى من الإدراك شبه الجماعي حول الولاءات الجامعة .

2- أدت ظواهر توريث المهن والوظائف وامتدادها إلى مشروع التوريث السياسي -من رئيس الجمهورية لنجله الذي فشل بعد 25 يناير 2011- إلى اللا مبالاة بمفهوم المصالح العامة الوطنية لدى الأجيال الشابة الجديدة، التي تم استبعادها من هيكل الفرص السياسية والاجتماعية، وبرزت سياسة للتحيز الاجتماعي ضدهم، وهو ما ساعد على نمو فائض من الأنامالية، وشيوع نزعة بأن مصر ليست لهم وإنما هي ملكية خاصة لتحالف بين بعض رجال الحكم ورجال الأعمال.

3- انتشار شبكات الفساد، وتحوله إلى نمط شعبي شائع وآلية لإعادة توريع الدخل، ومقابل لأداء بعضهم للوظيفة العامة ومقتضياتها على نحو أدى إلى سيادة قانون المكانة والقوة والنفوذ الذي تجاوز قانون الدولة، ما ساعد على انتشار قانون وأشكال الفوضى في الحياة اليومية، وعدم انضباط أجهزة الدولة ومشاركة بعضهم داخلها في التعامل في إطار قواعد الفوضى وقانون اللا قانون الذي وسم الحياة اليومية وعلاقاتها طيلة أكثر من ثلاثة عقود ولا يزال.

4- انتشار بعض جماعات العنف الديني وتمدد أفكارها الإيديولوجية الداعية إلى الدولة الدينية وإلى مفاهيم تتجاوز الدولة والفكرة الوطنية الجامعة لصالح مفهوم الخلافة والفكرة الإسلامية الجامعة،على نحو أدى إلى اهتزاز القيم الوطنية الجامعة.

Email