مخاطر العودة إلى الفتنة الطائفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تجديد الموحدات القومية، أو الوحدة الوطنية، تشكل إحدى أكبر معضلات الدولة المصرية، منذ نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي وحتى اللحظة التاريخية الانتقالية الراهنة، لأن النخب الحاكمة المتعاقبة لم تحاول بجدية وإبداع سياسي أن تواجه الأزمة في منابتها وعوامل تشكلها، وأسباب انكسار أسس الاندماج والتكامل الوطني. ترتب على اللامبالاة بهذه المحنة الممتدة، أن بعض الوقائع اليومية البسيطة تثير مشكلات كبرى بين المواطنين من المسلمين والمسيحيين.

إن تاريخ ما يطلق عليه «الفتن الطائفية»- والتعبير غير دقيق ولا علمي- وراءها شجارات أو وقائع ناتجة عن الاحتقانات الاجتماعية، أو بعض من مشكلات الجيرة أو العمل أو الزراعة أو الري أو المرور أو التوترات بين بعض الأطفال والصبية، أو بناء كنيسة أو ترميم بعض مكوناتها الآيلة للسقوط، أو أداء بعضهم للصلوات في بعض البيوت في قرى نائية بعيدة عن مكان للعبادة، أو بعض الألفاظ التي تفتقد الذوق واللياقة الاجتماعية أو الأخلاقية عموماً.

خذ مثلاً ما نقلته بعض المواقع الصحافية الرقمية عن أحداث خطرة في دلالاتها في قرية الناصرية بالمنيا، عندما فقد أحد المدرسين الأقباط شريحة ذاكرة جهازه النقال، ويحمل عشرين ثانية لخمسة طلاب تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 15 عاماً، وهم ينتقدون ممارسات تنظيم داعش، من الحرق والذبح.. إلخ. ترتب على ذلك تهديد بعض الشباب والصبية والبنات لأطفال المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية بالقتل، والتحرش ببعضهم أو بعضهن، وذلك على الرغم من تحويل المدرس بالمدرسة الإعدادية جاد يوسف للنيابة العامة، التي قامت بحبسه احتياطياً أربعة أيام على ذمة التحقيق، وقام أحد المتطرفين بنشر الواقعة في القرى المجاورة.

ما الذي قام به بعض الغلاة والمتطرفين؟ الاعتداء على منازل الأقباط وتدمير منزل المدرس، وفرض تهجير قسري على الأسر المتهم أبناؤها بالإساءة، وعددهم ست أسر.

أن أخطر ما في هذه الواقعة الخطرة هو طلب مديرة التعليم من مديري المدارس أن يصرفوا الطلاب والطالبات الأقباط من المدارس، وإعادتهم إلى منازلهم خشية لتطور الأمور إلى الأسوأ والاعتداء عليهم، وهو ما يعني أن أجهزة الدولة غير قادرة على حماية العملية التعليمية والطلاب والطالبات الأقباط. هذا السلوك البيروقراطي هو من الأمور المألوفة التي تحولت إلى نمط، لأن غالب الغلاة والمتشددين يعرفون سلفاً نتائج أعمال القتل والضرب والحرق والتخريب التي يقومون بها!

لأن أجهزة الدولة البيروقراطية تلجأ إلى مجالس الصلح العرفية من كبار العائلات وبعض رجال الدين والإدارة والأمن بالجلوس وتطبيق بعض القواعد العرفية الخطرة، من إيجاد مصالحات يتم من خلالها جبر بعض الأضرار من خلال الديات والتعويضات، وهو ما أدى ولا يزال لإزاحة قانون الدولة، وانتهاك جسيم لمبدأ المساواة أمام القانون، وإهدار لقيم وقواعد ومعاني العدالة الجنائية الحديثة والمعاصرة!

ما الذي ترتب ولا يزال على هذا الأداء البيروقراطي والديني النمطي؟ عديد من النتائج التي تمس هيبة الدولة والنظام والنخبة السياسية الحاكمة، وتتمثل في إضعاف بل وإزاحة مبدأ دولة القانون وهيبته وروادعه وسيادته على المخاطبين بقواعده وأحكامه، والمساس بهيبة ومكانة السلطة والجماعة القضائية، وانتزاع صلاحياتها في الفصل في المنازعات القانونية، وخرق وانتهاك قانون العقوبات والإجراءات الجنائية، وحلول سلطة القانون العرفي، والقضاة العرفيين في حل منازعات قانونية خطرة تمس الاندماج والتكامل الوطني سياسياً ودينياً، بكل آثار ذلك السلبية على الوحدة الوطنية، ورسوخ قانون قوة الأكثرية الدينية على الأقلية على نحو يؤدي إلى ازدياد معدلات التمييز الديني بين المواطنين، والأخطر تمدد عملية التحول إلى «الطائفية»، بما يمس الانسجام والتجانس القومي الذي يتجاوز في مكوناته الثقافية والاجتماعية «والطبقية» الانتماءات الأولية الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية.

هذا التمدد الخطر شكل بيئة ملاءمة وقاعدة لتحرك الجماعات الإسلامية السياسية المتشددة والطائفية، على نحو أدى إلى تحويل النزاعات الطائفية إلى أداة لمواجهة الدولة وأجهزتها والنظام السياسي على أرضية الطائفية، وذلك من خلال زعزعة الاستقرار السياسي والأمني.

من ناحية أخرى بث رسالة إلى المجتمع الكوني والإدارات السياسية في الدول الكبرى بأن النظام غير قادر على حماية المواطنين الأقباط، وهى مادة مثيرة لأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وتساعدها في صياغة صور نمطية حول فشل الاندماج القومى. ترتب على ذلك ولا يزال التأثير على حصيلة مصر من السياحة الدولية والإقليمية، والاستثمارات الموجهة إليها من التدفقات الاستثمارية الأجنبية والعربية.

إن عوامل نشوب التوترات والمشكلات الطائفية تاريخية ومعقدة، وترتبط بالخلط بين الديني والمذهبي و«الطائفي» وبين السياسي والثقافي والتعليمي، ومن ثم تعد مركبة ومعقدة وتحتاج إلى رؤية جديدة، وسياسة لتجديد أسس وقواعد وأبنية التكامل الوطني.

 

Email