ميلاد الفردانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

العلاقة الخاصة بين الأشخاص والهواتف الذكية وأجيالها الأخيرة، تبدو أحد أكثر المشاهد المألوفة والمركزية في الحياة اليومية، التي أصبح الهاتف الذكي النقال، وألواح الحاسوب المحمولة، هي إحدى علامات اليوم، وتعبيراً مكثفاً عن الدور المحوري، الذي تلعب الثورات الرقمية المتتالية في الحياة الشخصية والجماعية في مصر والمنطقة العربية، والعالم، بكل تأثيرات ذلك العميقة، والهادئة والناعمة على الوعي الذاتي، والجمعي والبنية الإدراكية لكليهما للذات والعالم الكوني والزمن.

إن أخطر متغيرات عصرنا الجديد هو التحولات التي تتم في منظومات القيم ما بعد الحديثة، وعمليات الهدم والتفسخ للقيم التقليدية والمهجنة بين التقليدي البطريركي والعائلي، وبين القيم الحديثة، التي كانت تعبيراً عن تشوه عمليات الانتقال من المجتمع التقليدي، ما قبل بناء الدولة الحديثة، وأثناء تشكلها وتطورها وإعاقاتها. من نهاية القرن التاسع عشر وبدايات النهوض المصري والعربي المتعثر حتى نهاية عقد التسعينيات شكل الصراع بين النظام القيمي التقليدي/ المحدث، وبين القيم الحديثة المرتبطة بالصناعة واتساع قاعدة الفئات الوسطى، إحدى أبرز ظواهر الفوضى والاضطراب والتشوش القيمي والثقافي في المجتمع المصري.

ترتب على هذه الوضعية التاريخية للقيم عديد النتائج الخطرة على تطور مصر السياسي والثقافي والديني ولا تزال، إذ إن قيم المجتمع الصناعي، ظلت مبتورة ومعاقة ومضطربة لهيمنة بعض القيم الريفية الغلاّبة على تركيبة مجتمع المصنع، وبعض العمال، والمهندسين، والإداريين من ذوى الأصول الريفية.

كما ارتفعت معدلات الهجرة من الأرياف إلى المدن، على نحو أدى إلى ترييف في مكونات المدن التاريخية في القاهرة والإسكندرية، التي سبق أن تحولت إلى مدن كوزموبوليتانية، وأدت هجرة الأقليات الأجنبية، والمصريين من ذوي الأصول الأوروبية بعد ثورة يوليو 1952، إلى إضعاف المكون الكوزموبوليتي المصري التاريخي، على نحو ساعد على نفاذ وتمدد عمليات الترييف في القيم وأنماط السلوك والعلاقة مع الزمن والعالم.

وأدى مشروع دولة يوليو التسلطية الكوربوراتية، والنزوع نحو مشروع تحالف قوى الشعب الكامل، والحزب الواحد إلى نمط من التسلطية الدينية، وتكريس الثقافة السياسية التسلطية. وترتب على ذلك كسر التطور الديمقراطي في بنية الثقافة السياسية، وفى القيم على نحو أضعف بنيوياً وأعاق عمليات التحول إلى الديمقراطية والحريات العامة والشخصية، وأخطر الأخطار جميعاً هو أن أغلبية النخبة يتصورون الديمقراطية محض أبنية وإجراءات وآليات، ترتبط بالانتخاب للبرلمان، ورئاسة الجمهورية، والجمعيات الأهلية مفصولة عن الثقافة والقيم والسلوك الديمقراطي وميلاد الفرد والفردية، ودمجها في مناهج التعليم المدني والديني.

هذا الوضع بدأت ملامح التغير تعتريه، منذ ثورة الاتصالات والمعلومات، والوسائط المتعددة، ودخول الهاتف المحمول وأجياله المتعددة والذكية وتطوراتها المذهلة والمتسارعة، ويمكن لنا رصد هذه التأثيرات الإيجابية، عبر كسر متسارع لبعض مكونات القيم التقليدية، وتسارع عمليات ميلاد الفرد والفردانية وإيقاعاتها في الحياة، من خلال اتساع فضاء الحريات على المجال العام الافتراضي، والتعبير بحرية عن الأفكار والآراء الشخصية، وعن الأشواق والدخائل الذاتية على تعدد منابعها ودوافعها، وتشكيل العلاقات الخاصة، وانكسار الحجب. المفروضة عليها، وتسارع عمليات الفردنة

إن ثورة الرقمنة ستؤدى إلى تزايد الفردنة، وهو أمر يشكل نقلة نوعية في التطور نحو الحريات والديمقراطية.

Email