لا سياسة ولا سياسيون

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل يمكن أن يكون هناك سياسيون بلا سياسة؟ أو سياسة بلا سياسيين؟ إن ما يثير السؤال المزدوج، هو هذا الفراغ المسكون بالخواء وغياب الرؤى والأفكار والمشروعات السياسية الذي ظهر جلياً ما قبل وبعد 25 يناير والمراحل الانتقالية الثلاث. إن السؤال قديم ومستكن في ضمير صفوة الألباب المصرية على قلتهم ممن تعرضوا للعصف بهم، واستبعادهم العمدي عن أن يسهموا بفعالية في الخروج بالدولة والأمة من أسر التخلف التاريخي الممتد واللحاق بالعصور المتغيرة، وتجارب التطور الحضاري البارزة في عالمنا المتغير.

ان ما يثير السؤال مجدداً ما شاهدناه من بعض من شغلوا مواقع القمة في هرم السلطة ولم يكونوا من أفضل الكفاءات والمواهب المصرية، وكان مستوى بعضهم متواضعا إلى درجة تبعث على القنوط واليأس والسخرية. الأخطر هو تجريفهم لخريطة المواهب وولعهم باختيار وتجنيد العناصر الأكثر تفاهة وسطحية ومن هم أقل من الحد الأدنى لقيادة عديد من أجهزة الدولة.

عديد الأسباب تقف وراء موت السياسة كرؤى ومشروعات وصراع ومنافسة منظمة على تخصيص القيم والمصالح والرموز، ولكن أهمها، هو طبيعة تشكيل الدولة والنظام التسلطي ونخبة الضباط الأحرار والتكنقراط والبيروقراطية التي اعتمدت سياسة الإدارة، وجمود مصادر التجنيد للنخبة واستبعاد من هم خارج هذه الدائرة، وهو ما أدى إلى موت السياسيين إلا قليلاً.

من موت السياسة انبثقت سياسة اللا سياسة، ومنها نشأة ظاهرة الموظف الذي يعمل في مواقع سياسية وهو ما هيمن على الدولة والنظام السياسي ولا يزال، ونادراً ما ظهر السياسي لأسباب بنيوية، وتراجعت الكفاءات فيمن يشغلون مواقع هي سياسية بامتياز، ومن ثم يبدو الخواء والضحالة الفكرية والسياسية تعود إلى عديد الأسباب يمكن ايراد بعضها، ومن ابرزها ضعف مستويات التجنيد النخبوي على مستوى التكوين المعرفي والوظيفي، اعتماداً على معيار الموالاة والزبائنية داخل النظام وأجهزته الأمنية والاستخباراتية، والنكوص عن المتابعة العميقة والدقيقة للسياسات العولمية والإقليمية التابعة ومتغيراتها على صعيد النماذج السياسية، وأساليب ومهارات الحكم، ووصل الأمر إلى جهل بعضهم بخرائط الطبقات الحاكمة، والجغرافيا الدينية والمذهبية والعرقية والقومية واللغوية والعائلية في الإقليم وانعكاساتها على سياسات المنطقة ونزاعاتها، ولا مبالاة وإهمال غالبهم متابعة سياسات ونماذج التنمية وتجاربها الجديدة في دائرة القارات الثلاث، وعوامل نجاح بعضها والحيوية الجديدة داخلها، ومحدودية المعرفة التاريخية العالمية والعربية والمصرية في تكوين طبقة الموظفين العاملين بسياسة الإدارة، وهو ما أدى ولا يزال إلى ضعف الحس التاريخي في مقارباتهم للأمور، وغياب الرؤى المستقبلية لدى أغلبهم في الحكم، ومن ثم فقدان القدرة على بلورة بدائل محتملة في التعامل مع الأزمات أيا كان حقلها، وعدم متابعة دقيقة ومدروسة للتغيرات الداخلية في التركيبة السكانية، والتعليم والصحة والثقافة.

ومن الأسباب ضحالة المكون الثقافي الرصين والرفيع في تكوين «الموظفين السياسيين» لاسيما الأجناس الأدبية وسردياتها، والفنون التشكيلية والموسيقى الرفيعة.. الخ. وهل يحتاج السياسي لهذا التكوين؟ نقولها نعم جهيرة لأن التكوين الثقافي الرفيع يعطي السياسي القدرة على النفاذ إلى جوهر وقلب الظواهر وعوامل فشلها بالإضافة إلى الحس الجمالي في مقاربة الأبعاد المجتمعية والسياسية للمشاكل، وفي ارهاف الخيال السياسي، الذي يمثل سمت السياسي وملكته الرئيسة، ومراعاة البعد الثقافي والقيمي في تصديه للأزمات، وفي خطابه إزاء الإقليم المتعدد والمركب والعالم المعولم المتعدد (لاحظ تشرشل وميتران ولي كوان يو، وكلينتون).

وتدهور المعرفة وانحطاط الحساسية اللغوية، ودقة التعبير وتراجع مستويات البلاغة السياسية لدى طبقة «الموظفين السياسيين»، وغياب العمق المعرفي والبحثي في خطاب الموظفين، وهو ما يشير إلى انفصال بين سياسة اللا سياسة، وبين البحث العلمي والدراسات المتخصصة للمشكلات، وهو ما أدى ولا يزال إلى مقاربات تتسم بالعمومية المفرطة والغموض والتكرار وعدم القدرة على اختراق عمق المشكلات وعوامل تشكلها وتطوراتها وتعقيدها.

وعدم تبلور رؤية تجديدية أو إصلاحية للعلاقة بين الديني والسياسي في المجال العام والمغالاة في التوظيف السياسي والإيديولوجي للإسلام في خدمة أغراض التعبئة والترويض الجماهيري، وفي تشويه الخصوم الإيديولوجيين والفكريين.

السياسة الدينية للموظفين السياسيين- السادات وما بعد- أدت إلى دعم التطرف والإرهاب الديني المادي والرمزي المتبادل مع قوى الإسلام السياسي، مما أدى إلى تضخم الاعتماد على الإسلام الرسمي ومؤسساته الرسمية، وهو ما ساهم في خلق أرضيات فقهية وتأويلية وفكرية محافظة شكلت أرضيات تحرك وتمدد الإسلام السياسي الراديكالي وتجنيده لبعض من طلاب وخريجي هذه المؤسسات التعليمية الدينية الرسمية.

ثمة غياب لمعنى وقيمة ومكانة مصر الحضارية لدى غالب نخبة الحكم، وتعامل بعضهم القزمي مع معنى وأهمية وقيمة الدولة/ الأمة المصرية في التاريخ الحديث والمعاصر.

ان موت السياسة، وسياسة اللا سياسة أدى إلى موت السياسي، وصعود «الموظف السياسي»، والناشط والخبراء في اللا خبرة الذين يملؤون فضاءنا لغواً وصخباً وفراغاً وتفاهة والسؤال ما العمل؟

 

Email