حصاد التخلف الأعمى

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأت تروي حكاياتها قبل خمسة آلاف سنة، أو أربعة أو ثلاثة أو ألفين، تسردها دون توقف، ترويها فيسمعها ويراها كل من وقف مندهشاً في حضرتها سائحاً أو زائراً أو فضولياً أو باحثاً، ومع كل إيماءة ولفتة وحركة في تعابيرها، نثرت حولنا فخر الإنسان بالإنسان، وقدرته عبر التاريخ على توظيف ما حوله لاكتشاف ذاته والارتقاء بها وبقيمتها وقيمها، والتفاعل الحيوي مع محيطه بالفن والثقافة والاقتصاد لإنتاج حياة ومستقبل أفضل، فكانت حضارات بلاد الرافدين، ونحتوا بالصخر تاريخهم وأنماط حياتهم، ومشاهيرهم وحكامهم وحكماءهم وفلاسفتهم.

وظلت منحوتاتهم شاهدة على تاريخهم، وتوالت عليها الحضارات السومرية والآشورية والبابلية بهزائمها وانتصاراتها، وجاء عمر بن الخطاب فاتحاً، ولم يقطع نخلة، ولم يخطف امرأة، أو يقتل طفلاً، أو يذبح مسيحياً، أو يحرق أسيراً، أو يهدم أثراً أو منحوتة، أو يكسر أنف تمثال، أو يحرق مخطوطة. فأبقى التاريخ على تاريخه شامخاً، ولم يمسسه بسوء أو نار، بل كان مثار فخر واهتمام للقيمة الإنسانية التي يختزلها هذا الحجر أو ذلك الرسم، أو تلك المخطوطة.

أما اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين، حيث التطور العقلاني والفكري والإنساني، والوصول إلى المريخ، نرى التخلف بعينه متجسداً في «داعش» يحصدون الموت والجهل ويعيدوننا إلى زمن البرابرة والتخلف، يحملون بجنون فؤوسهم ينهالون بها على أعناق تماثيل بلاد الرافدين، يطعنون التاريخ في قلبه، إذ تسكت التماثيل عن سرد قصتها، وتحت وطأة التطرف والجهل تشهق صرختها الأخيرة وهي تتهاوى قطعاً، وتكف عن البوح والكلام والإشارات، فيزداد الجاهل جنوناً، وينهال بعصبية عليها، ليتأكد أن التاريخ فيها مات ولن يعود حياً، وأن هذا الصوت الصارخ ليس إلا صدى صوت ارتطامها بالأرض.

لقد حصد التخلف الأعمى نتائجه، فالجهل ينزع المنطق من العقل، والتطرف ينزع الرحمة من القلب، فما بالك إذا اجتمع الاثنان في شخص واحد، وبيده أداة القتل والتدمير، حتماً سينتج الموت والدمار إذا لم يتم الردع بالقوة أولاً، والاحتواء ثانياً، والتأهيل ثالثاً، والدمج أخيراً على طريق المجتمع المنتج المثمر بأفراده الواعين المؤهلين المتحصنين بالعلم والمعرفة وحرية الفكر واحترام الآخر أياً كان.

كانت بلاد الرافدين حاضرة بقوة في معرض فني أثري يحكي تاريخ الحضارات الثلاث الرئيسة في بلاد الرافدين، السومرية، والآشورية والبابلية في أبوظبي، فقبل أربع سنوات، وتحديداً في أواخر مارس 2011، استضافت منارة السعديات بالتعاون مع المتحف البريطاني نحو 200 قطعة أثرية أصلية نادرة، وهي من مقتنيات المتحف.

وقد كان معرضاً مدهشاً وملهماً ومهيباً؛ فأن تقف أمام خمسة آلاف عام من الحضارة ليس بالشيء الهيّن، وتستحضر أيادي البناة وأصابع النحاتين والنقاشين والرسامين، وتتقفى أثر المعنى في كل أيقونة تحكي منحنيات الاستقرار والقوة والانهيار والصعود للحضارات وتحالفها ونزاعاتها وتمددها وتعاقبها وأفول نجمها.

لقد عوملت المعروضات بتشريفات عالية وكأنها تحفٌ من الماس، فهي لا تقدر بثمن، فمُنع علينا اللمس، ووُضعت أمام بعضها الحواجز واللافتات التحذيرية، حيث تم تثبيتها في أماكنها بحرفية عالية، ورافقتها حملة توعوية ضخمة في المعرض والإعلام. فقد كان نموذجاً لاحترام التاريخ والفن معاً.

وناهيك عما عكسه نجاح المعرض بقياس الاهتمام البالغ لدى دولة الإمارات العربية المتحدة في احترام وتقدير التاريخ البشري، حيث مأسست الدولة العمليات المستدامة للتنقيب والتوعية والصيانة والحفظ والبحث والتوعية والترويج للإرث والتراث البشري القديم، إلا أن الغالبية العظمي في عالمنا العربي لم تبلغ مستوى المأسسة، بل ازدهر التهريب والتخريب في قطاع الآثار، وكثرت الأسواق السوداء، فمن رحلة أولها السرقة، والتهريب، والثمن البخس إلى صالونات ومكاتب التجار في أوروبا والعالم.

وأتساءل: لماذا تاريخ العرب والساميين عند الإنجليز مصان، وفي مهده عند العرب غير مقدر ومهان! ولعل حجر الرشيد أحد الأدلة الواضحة على ذلك، ففي الحرب العالمية الأولى 1917 أصيب حجر الرشيد المعروض في المتحف البريطاني بكسر بسيط، فدب الذعر خوفاً على هذا الحجر التاريخي الذي تم اكتشافه في مصر عام 1799، وكان له الفضل في فك شيفرة اللغة الهيروغليفية على يد شاب فرنسي قروي فقير يدعى «شامبليون».

 فتم نقله من المتحف إلى موقع آمن تحت الأرض، حيث أمضى الحجر مخبأً عامين متتاليين في محطة أنفاق المترو على عمق نحو 15 متراً (50 قدماً) تحت سطح الأرض في منطقة هولبورن المجاورة لموقع المتحف في لندن.

 

Email