جيران ولكن..

ت + ت - الحجم الطبيعي

لطالما ساهم المعنيون العرب بقراءة مسار القضية الفلسطينية ومصيرها من منظور إقليمي، في تثبيت مدركات تعتبر أدوار دول النظام العربي بمثابة المتن أو الأصل، بينما تبدو مداخلات كل من تركيا وايران واثيوبيا أقرب الى موقع الحاشية أو الهامش.

موضوعيا، كان هذا التمييز مقبولاً، في زمن المد القومى واستعصام النظام العربي برؤية شاملة وثوابت معلومة في مواجهة الغزوة الصهيونية وإسرائيل. لقد بدا أن العرب هم المقصودون وحدهم بهذه الغزوة..

وبدت الدول "الشرق أوسطية" الأخرى، مجرد مجال للشد والجذب بين العرب من جانب وبين الصهيونية وإسرائيل من جانب آخر. وساد التصور بأن الدول المجاورة تستغل انشغال النظام العربي بمنازلة اسرائيل في منطقة القلب، لتمارس عليه ضغوطا، أو حتى ابتزازات، من الحواف والأطراف.

وكان مما عزز المنظور السلبي العربي إزاء هذه الدول، تعاطيها السريع مع اسرائيل، سواء لجهة الاعتراف بها أو لجهة توطيد العلاقات التعاونية معها.

وبالنظر إلى حالة الحرب والعدوان الإسرائيلية ضد العرب فرادى ومجتمعين، وبخاصة خلال العقود الثلاثة الفاصلة بين نشأة اسرائيل عام 1948 وعقد معاهدة السلام بينها وبين مصر عام 1979، فقد اعتبر العرب هذا التعاطي مظهرا للعداء معهم، وتنفيسا للمقاطعة التي ضربوها على " العدو الإسرائيلي".

وضاعف مرارات العرب من هذا التعامل، السري منه والعلني، أن دول الجوار لم تراع الوشائج التاريخية والاجتماعية والدينية؛ أوالحضارية بالمعنى الواسع، التي تربطها وثيقا بهم .. حقا أخذت العلاقة العربية مع هذه الدول طابع التنافس أو الصراع أحيانا، لكن اسرائيل تظل كيانا دخيلا على المنطقة بعربها وعجمها على حد سواء.. وقد حاول العرب، الفلسطينيون منهم بخاصة، إبراز هذه المعاني والتأكيد عليها أمام دول الجوار. غير أن الجدوى كانت قليلة لدى النظم الحاكمة فيها لفترة طويلة.

بالمقابل، كانت إسرائيل تستثمر صلاتها مع النظم في أنقرة وطهران وأديس أبابا في مطاردة الحقائق الفلسطينية الصاعدة، وتصدير القناعة بأن أي إيناع للقومية العربية الحاضنة لفلسطين، سيكون ضاراً بهم. لقد أجادت تل أبيب العزف على الأعصاب الحساسة لهذه العواصم. فهي استفزت أنقرة من مدخل التذكير بانقلاب العرب على تركيا العثمانية وتحالفهم مع أعدائها أثناء الحرب العالمية الأولى.

واستفزت أديس أبابا ومن ورائها المجال الأفريقى بالترويج لأكذوبة، تاريخية استشراقية الأصل، تتعلق باستعباد العرب للأفارقة والمتاجرة بهم، وتخليق عقدة التعارض بين العروبة والأفرقة .. ثم إن إسرائيل صدرت للجميع صورة أنها الدولة المسموعة الكلمة تحقيقا لأية مطالب لهم في عالم الغرب.

منذ نشأتها، لم تكن القضية الفلسطينية بعيدة عن السجالات والمناظرات العربية مع دول الجوار .. لكن الصلابة النسبية للنظام العربي خلف القضية، تكفلت بتثبيت تأثيرات هذه الدول عند خطوط بعينها؛ لا تتجاوزها الى التغلغل الفاعل داخل أروقة السياستين العربية والفلسطينية.

ولنا أن نلاحظ العلاقة الطردية بين تصدع هذا النظام وتفشي الانقسامات في المجال السياسي الفلسطيني، وبين زيادة تدخل دول الجوار في مفردات القضية الفلسطينية بنسب متباينة.

لا أحد يجادل راهنا في حقيقة انحسار النظام العربي، وما ترتب عليها من حدوث حالة سمحت لدول الهامش الإقليمي بالتمدد في الأحشاء العربية.. ولأن هذا الانحسار لم يقترن بأفول القضية الفلسطينية ولا بتحقيق الفلسطينيين لأهدافهم، فقد ظلت هذه القضية بكل إشعاعها مجالا مناسبا لمداخلات هذه الدول.

ومن المفارقات في هذا الإطار، ذلك التوازي والتزامن الملحوظ بين صعود القوى الإسلامية في كل من ايران وتركيا بالذات، وبين صعود الحركات ذات المرجعية الإسلامية، كحركتي حماس والجهاد، في الحالة السياسية الفلسطينية .

لقد أنتج هذا الواقع ما يشبه حالة من الاعتماد المتبادل .. فالقوى الاقليمية تسعى لاختراق النظام العربى وتوسيع مساحة نفوذها الإقليمي والدولي، وهذه أهداف ربما يساعد على تحقيقها التواصل الحميم مع الحركات الفلسطينية المتحرقة للدعم والمؤازرة.

وبالنظر إلى كثافة التفاعلات داخل هذا المشهد، فربما ماعاد من المناسب اطلاق صفة دول الجوار أو الهامش على وضعية تركيا وايران من القضية الفلسطينية. بمعنى أنه يصح التساؤل عما اذا كانت هذه الصفة قد تقادمت أو فقدت صلاحيتها ولو في حدود نسبة من الرأي العام الفلسطيني. لقد اشتبهت الخريطة الجغرافية السياسية على البعض .. إذ كيف يكون جاراً أو هامشاً فقط من بات فاعلا قويا في اتخاذ بعض أهم القرارات لدى حركات قوية في النظام الفلسطيني؟.

 

Email