مشروع الإصلاح بين العقل والنص والتراث

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان الإصلاح الديني هو المهمة المنطقية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث كانت الثقافة العربية اكتشفت تأخرها مطلع القرن نفسه، مع إطلالة نابليون بمطبعته ومدفعه، وحضور الغرب باستنارته وعدوانيته. أعجبتنا المطبعة وما تتيحه من نشر المعرفة التي تنير عقولنا، وأخافنا المدفع وما يخرجه من بارود يقتل إرادتنا في مواجهة العدوان على أراضينا. لقد حدث الكشف ووقعت الصدمة، وبعدها بدأ طوفان الأسئلة الذي لم يتوقف حتى اليوم.. ذهب كثيرون إلى البر الغربي وعادوا.. درس بعضهم بتمعن، وألقى بعضهم الآخر نظرات عابرة.

بقي البعض ثابت العقل، وتهاوى جنان البعض. ليس مهماً هنا الاستخلاصات التي قدمها الطهطاوي أو اقترحها التونسي أو دعا إليها الألوسي والشدياق أو مارسها الأفغاني والكواكبي، فهذه مما يمكن الاتفاق معه أو الاختلاف حوله، ولكن الأهم هو أن الورشة الثقافية قد دارت عجلاتها، بانتظار خروج المنتج الجديد، حيث النهضة الحضارية من دون تجاوز إيمان عظيم كالإسلام، أو ثقافة صاغت تاريخا مجيدا كالثقافة العربية، وفي سياق يشهد يمتزج فيه العقل ناهضا متوثبا دون أن يفقد إيمانه، مع الإيمان كروحانية عميقة لم تتخل أبدا عن معقوليتها.

وهنا جاء محمد عبده، تتمة منهجية لكل من سبقوه، داعيا إلى إصلاح الفكر الديني، على المنوال الذي نسج عليه مارتن لوثر. سعى المصلح البروتستانتي إلى تحرير المسيحي من سلطة الكنيسة، ومن هيمنة أعمال وكتابات كبار باباواتها وقديسيها، مؤكدا على محورية الإنجيل وإتاحة قراءته لكل مسيحي، كفرد حر، خصوصا بعد أن قام بترجمته من اللاتينية إلى الألمانية. أما الإمام المسلم فقد طمح إلى تجديد رسالة التوحيد نفسها، إذ رأى في النص القرآني معاني ثورية لمفهوم الألوهية، ومغزى الإنسانية، كانت طُمست تحت وطأة تراث الاستبداد والقهر والخرافة، يكفي استدعاؤها لتوفير ممكنات أصيلة للاستنارة والحرية، تدعم جهود المسلم في مواجهة السياقات المجتمعية والسياسية، طالما تخلص العقل من سلطة التقليد الضاغطة عليه، والتي تشكلت بمساعدتها، كل هياكل القهر التي سطرت تاريخنا المديد.

هنا تثور إشكالية العلاقة بين العقل والنص، والتي تستدعي إشكالية أكبر تتعلق بمفهوم النص، وهل هو النص القرآني المحدد والمعقول، أم النص التراثي المتمدد، المراوح بين العقلانية والتقليدية ؟ ففي النص، بالمعنى الواسع، ثمة معقول (منطقي) لا يزال صالحا للعمل، وهو ما يتعلق بقواعد العبادات وفقه المعاملات (الأخلاقية). وثمة معقول (تاريخي) كان صالحا للعمل في سياق ما، ولكنه لم يعد كذلك اليوم، وهو ما يتعلق بأنماط العيش والعمل واللباس.

فإذا ما اتفقنا على أن الدين، جوهريا، هو علاقة رأسية بين الله والإنسان، وأن المهمة الأساسية للنص القرآني تتمثل في صياغة رؤية إيمانية لـ(الوجود) تتسم بالكلية والمعقولية والشمول، وليس تقديم نظريات علمية تحليلية وجزئية، كما توجب علينا إعمال العقل كاملا في مواجهة المكون الثاني منه دون تردد، صوغا لقيم عيش مدني، وأنماط تنظيم اجتماعي حديثة، طالما أنها تنطلق من رؤية إيمانية للوجود.

كما أمكننا إعمال العقل (بشروط) في المكون الأساسي من النص التراثي، سواء السنة الشارحة للنص القرآني، أو النص القرآني نفسه، وهو الفهم الذي خلص إليه الإمام مؤكدا على أن النص لا يمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقض كان بالضرورة (ظاهريا)، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع في آفة التلوين.

وهكذا لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه، وهكذا كان موقف الإمام بمثابة نقطة ذروة في مسار العقلانية العربية الإسلامية، ربما منذ المعتزلة وابن رشد.

غير أن مشروع الرجل قد هزم على حلقتين متتابعتين: في الأولى أعاد محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام، تأويله على نحو سلفي قضى على جرعته العقلانية ومبدئه (التنويري) القائل بأولوية العقل على النص. وفي الثانية قام حسن البنا، تلميذ رضا، بتحويل سلفيته العلمية إلى حركية، بإنشاء جماعة دينية تصورها تربوية، أو روج لكونها كذلك، وهي إما سياسية منذ المبتدأ أو أنها استحالت كذلك بحسب طبيعة الأشياء، كونها جماعة مغلقة تقوم على تميز نفسها في مواجهة الآخرين، ومن ثم على ثنائية (الذات ـ العالم)، حيث تتبلور هوية الجماعة في مواجهة الآخرين من عموم المصريين/ المسلمين.

Email