البؤس والتردي !

ت + ت - الحجم الطبيعي

بُعيد سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي تركزت الأنظار الغربية على مستقبل الشرق الأوسط. في السياسات الإقليمية والدولية الكبرى فإن المنطقة فراغ يمكن ملؤه من مختلف الثقافات والحضارات.

لجأت القوى الكبرى بزعامة الولايات المتحدة إلى استحداث مفهوم جديد للمنطقة يعتمد إدخال الديمقراطية على النمط الغربي. استغلت أحداثاً حقيقيةً وأخرى مفتعلةً، وثالثةً مفترضةً، للدخول على خط التغيير لأهل المنطقة.

بالذات استغلت ظاهرة الإرهاب التي أُلصقت بالذهنية والسحنة العربية والإسلامية عبر عقود من السنين. دخلت على صهوة الحرب على الإرهاب إلى العراق ومن ثم إلى بقية الأقطار العربية، قُطراً قُطراً. استجابت الشعوب العربية المكتوية بنار الديكتاتوريات لأطروحة الديمقراطية.

فرحت حتى بقدوم الديمقراطية على ظهر الدبابة، أو عبر تدخلات سفراء الدول العظمى والجماعات الدولية في شؤون المنطقة. لجأت باللين أو بالقوة لصندوق الاقتراع، والذي كما يبدو فخاً أو شرَكاً نُصب لها ووقعت فيه.

سادت وتسود الشعوب العربية حالات من الهرج والمرج والانتكاسة والتراجع. ذلك ما يبقيها منشغلةً بأمور بعيدة عن التنمية والتطوير والتحديث.

المنطقة وأهلها تغوص إلى الأذقان في مستنقعات تعج بالفوضى والفقر والتخلف والتراجع. كتل كبيرة في شمال أفريقيا وشرق المتوسط، وما بين الرافدين وجنوب البحر الأحمر ومنطقة الخليج العربي، دخلت حالات من المخاض "الديمقراطي" المزمن.

حتى الآن، لم تدخل الديمقراطية المجتمعات العربية ولم تخرج الديكتاتوريات من أنفس تلك الشعوب والأقطار. الحالة تسير من سيئ إلى أسوأ ولا يوجد في الأفق ما يشير أو يوحي بقرب انحسار للأزمات الحاصلة.

ما أن تدخل أزمة إلى أهل المنطقة حتى تصبح في طريقها إلى أن تكون مزمنة. حتى مشكلة اللاجئين والنازحين، التي يجب أن تكون حُلّت في الأشهر الأولى على الأكثر للأزمات، أصبحت مزمنةً بامتياز وتتفاقم.

الملايين من السوريين والعراقيين وغيرهم عبر الأقطار التي استقبلت الديمقراطية الحديثة يواجهون مستقبلاً حالكاً، يذكّر بحالة اللاجئين الفلسطينيين والأرمن وغيرهم من الأقوام.

حديثاً تراجعت أسعار البترول بشكل ينذر بتفاقم الأزمات وتحويل مضاجع شعوب المنطقة إلى كوابيس ثقيلة. النفط والغاز الطبيعي هما عماد القوة الاقتصادية العربية الاستراتيجية ومصدر شبه أوحد للعملات الصعبة.

لم تنجح خطة تنمية واحدة للاستغناء عن تلك المصادر في حال نضوبها. لم تأخذ الإدارات الغربية الراعية لتصدير الديمقراطية إلى العرب الحالة الحضارية والثقافية والاجتماعية والأيديولوجية الخاصة بالعرب.

المجتمعات العربية دخلت الآن في سلسلة من الحروب الأهلية المدمِّرة، مع تبادل تهمة الإرهاب بين الكتل المتصارعة؛ كل طرف يحارب الآخر بناءً على أنه يمارس الإرهاب ضد الآخر. الطرفان يتلقيان دعماً سياسياً ومعنوياً وإعلامياً من مختلف الجماعات والجهات الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها جماعات حقوق الإنسان.

الأخيرة تتهم الأطراف المتحاربة بشكل دوري ونمطي، حسب الحالة الميدانية المتأججة.أثبتت الحالة الراهنة التي وصلت إليها المجتمعات العربية أنها حقيقةً ليست بحاجة إلى الديمقراطية الحديثة أو المستوردة. بسببها فقد العرب الاستقرار النفسي والمعنوي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي بشكل لا نظير له عبر التاريخ البشري، القديم والحديث.

لولا حالة الفساد المستشرية السائدة في الأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لأمكن القول بأن "نار الديكتاتورية العربية خير من جنة الديمقراطية الموعودة للعرب". للتخلص من الحالة البائسة التي وصلت إليها تلك الشعوب فهي بحاجة إلى عقود وربما قرون من السنين. في ذلك فإن أعداء العرب ليسوا بحاجة إلى بذل أي جهد لعمل أي حساب، لأي وجود عربي فاعل.

 

Email