لماذا هم ملحدون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل أولئك الذين عرض إعلامنا الفضائي لادعاءاتهم الإلحادية قبل أسابيع، ملحدين حقاً، أم أنهم مدعون للإلحاد؟ تقتضى الإجابة تمييزاً ضرورياً بين أمرين: الأول: هو الإلحاد الفلسفي، الذي ولد من الصراع الممتد بطول التاريخ تقريباً، حول الاسم القدسي (الله)، خالق العالم والإنسان، والذي طرحت في ظله تلك الأسئلة الجوهرية حول معنى الوجود، وأصل الخلق، وجذور الشر، وجدوى الخير، ومصير الإنسان، ومغزى الحياة، وما بعد الموت.. الخ.

إنها الأسئلة الكبرى التي شغلت تاريخ الفلسفة، وعبرت عن انشغال حقيقي بالمصير الإنساني، تحريراً لإرادته من فلك الحتميات التي وضعها الكهنة قيدا على حريته، وراكمها السحرة طبقات ضاغطة على عقله، وأحالها بعض رجال الفقه واللاهوت وسائل لإلغاء شخصيته.

هذا النوع من الإلحاد، هو ما عرفته الثقافة الأوروبية الحديثة في سيرورة انعتاقها من الفكر التقليدي، وخصوصا من الفلسفة المدرسية (التومائية) القائمة على العناق بين اللاهوت المسيحي، والمنطق الأرسطي.

وباسمه تحدى فيورباخ الإيمان المسيحي، كما تحداه فرويد، وماركس ونيتشه، ودوركهايم، ففي دراسته (جوهر المسيحية)، اعتبر فرويد أن موضوع الدين، أي الله، مجرد تعبير عن جوهر الإنسان، انعكاس له وإسقاط عليه.

وهكذا لم يعد الدين سوى أوهام إنسانية. أما ماركس فرأى فيه مجرد تنهيدة لمخلوق خاضع، وأفيوناً لشعوب مقهورة، وأن الحاجة للعزاء الديني، وهى الحاجة نفسها للوعى الزائف، سوف تستمر مادامت المجتمعات الطبقية قائمة، والطاغية يتحكم وحده برقاب الجميع، تحت سلطان الدين.

ما أردنا قوله هنا، إن الموقف الإلحادي على درجة من الخطورة تدفع العقول المسؤولة إلى التحسب له، حتى تكاد تفترش الطريق إليه بكل أنواع المعارف، التي تضيء جوانب الظاهرة الإنسانية المعقدة.

ولم نقصد إلى القول إن الإلحاد يمثل بالضرورة الموقف العقلي (الإيجابي)، الذي أنتج وحده معرفة عميقة، بل إن عقولاً أكبر من هؤلاء، أنتجت من داخل الإيمان نظريات وأفكار أكثر إلهاما من قبيل كانط وفلسفته النقدية الباقية حتى اليوم، وجوته بمثاليته الجامعة بين العقلانية النافذة، والروحانية الشفافة.

وكذلك هيجل الذي لم يحل دفاعه عن معجزات المسيح نفسها، دون تقديمه لأحد أبرز الإبداعات الفلسفية عبر التاريخ، مفهوم الجدل المثالي، القائم على صراع الأفكار، والذي كرس للفكر الحديث، وأنهى سطوة المنطق الأرسطي (الصوري)، الذي كان كرس للفكر التقليدي القائم على الشكلانية والسكون.

أما الثاني فهو (الإلحاد السوقي)، الذي يفتقر القائلون به إلى العمق والمسؤولية، ويعولون فقط على الغرابة والاستفزاز في التعاطي مع الحقيقة الإلهية، ناهيك عن السخرية من رجال الدين المسيحي وأئمة الفقه الإسلامي، وهو ما تجلى في حوارات الإعلام المصري التي اتسم معظمها بالردح والاستهزاء بإيمان المشاهدين.

يخلو هذا النمط الإلحادي، من أي استدلالات منطقية، إذ يضع أربابه مقدمات صحيحة ولكنهم لا يصبرون على الوصول بالبرهان إلى نتائجه الأخيرة المستقيمة.

والبادي من طبيعة المرحلة العمرية لأغلبهم، أن التسرع هو سمتهم، وأنهم لم يبذلوا جهداً معرفياً يذكر في تأمل الموقف الإنساني المعقد، فلا غايات واضحة لإلحادهم، سوى الاستعلاء على (جموع المؤمنين)، باعتبارهم ذلك القطيع الذي يحسن التفرد في مواجهته بالإلحاد، كمحاولة للبحث عن هوية ضائعة.

مشكلة هذا النوع من الإلحاد (السوقي) أنه عدواني بقدر ما هو استعلائي، فالملحد الفلسفي لا يسرع إلى إعلان إلحاده، وبعض من ذكرناهم سلفاً لم يسموا أنفسهم ملحدين أصلا، بل وصفهم بذلك مؤرخو الثقافة الذين أتوا بعدهم، كما كانوا يشعرون بالمسؤولية عن الإنسان، وضرورة تخليصه مما اعتبروه (أوهام) تعطل العقل، وتقيد الحرية.

أما الملحد السوقي فغالباً ما يعلن إلحاده، قبل أن يتأمل حيثياته، لأن الهدف هنا ليس الإلحاد في ذاته، بل الإعلان عنه، بهدف تحقيق الشهرة والذيوع كما تحقق فعلاً للبعض منهم.

 

Email