الخوف من الموت أقسى من الموت، والقلق من القلق ذروة القلق. الحياة التي نمضيها في الحذر من سلبياتها قمة السلبية، إذ لا يمكنك أن تجلس على كرسي برجل واحدة وتضع رجلاك فوق بعضهما البعض، تدخن سيجارتك، تشرب قهوتك، تضحك على فراشة مزهوة بألوانها تحوم حول الضوء، تقترب وتبتعد وتقترب حتى تحترق. الفراشات جميلة رشيقة، لكنها غبية مثيرة للشفقة، تموت في ذروة بهجتها.. تحترق وهي تبتسم.
حالة القلق عاشتها الشعوب العربية عقوداً من الزمن، ما ساعد على تحكم أنظمة بحيواتها، ماذا تأكل وتشرب، ماذا تلبس وتخلع، ماذا تتعلم وتتكلم، بل كيف تفكر؟، الأمر الذي راكم ضغوطاً هائلة عليها معيشياً وفكرياً، حاضراً ومستقبلاً..
كما حدّ من حركتها وجعلها بطيئة التقدم في عالم خطا خطوات سريعة إلى الأمام وإلى أعلى، حتى بات العربي ينظر إلى العالم المتحضر نظرة النملة إلى الفيل، والنقطة إلى البحر. وفي احسن الأحوال، مثل ذاك الثري الذي يمتلك أكثر من سرير لكنه يحتار في أي منها ينام، فيهرب النوم من عينيه ويمضي نهاره في قلق، وبذلك يتساوى مع الذي ليس لديه سرير ولا مكان ينام فيه. لا هذا حصل على ما يسد معدته وعقله، ولا ذاك وجد الطريق إلى الحضارة، فأصبح كمن يمتلك سيارة لكنه لا يعرف السياقة.
لم يكن الطريق ممهداً أمام العربي منذ حصول غالبية الدول العربية على استقلالها، وما كاد أن يتلمس طريقه حتى بدأ معول الانقسام يضع الحجارة أمامه، فانقسم العرب إلى معسكرين: واحد تابع للشرق وواحد للغرب، وسار كل في طريق لا يشبه الآخر، بل يختلف عنه كلياً، فاشتعلت بين العرب أنفسهم حروب وتفجرت ألغام حدودية زرعها الاستعمار القديم بين كل دولة ودولة.
الفراشة العربية كانت تدرك أين هي الشمعة التي يمكن أن تضيء للأمة الطريق، فحافظت على مؤسسة جامعة الدول العربية وعلى مؤتمرات القمة، إلا أنها كلما أوشكت على إشعال الشمعة كانت تحترق لتعود من جديد إلى المربع الأول، مربع الاختلاف والانقسام والمؤامرات وحتى الاشتباكات الحدودية المسلحة.
وفيما كانت الدول العربية تتقدم خطوة وتتراجع خطوتين، كانت إسرائيل تتقدم خطوات خارج فلسطين المحتلة العام 1948، بل أيضاً داخل دول الجوار التي كانت تسمى دول المواجهة، ودول الطوق في زمن شعارات «تحرير فلسطين المحتلة» و«تجوع يا سمك البحر» و«لاءات الخرطوم الثلاث:
لا صلح، لا اعتراف، لا استسلام». وبدعوى العمل على تحرير فلسطين تم استعباد الشعوب، وخاصة من قبل الأنظمة «الثورية» المحسوبة على المعسكر الاشتراكي، الذي انهار بتفكك الاتحاد السوفييتي بعد قدوم بوريس يلتسين على ظهر دبابة في انقلاب على ميخائيل غورباتشوف ونظريته في إعادة البناء «البريسترويكا» العام 1991، ثم وضعه في الإقامة الجبرية...
وتشكيل لجنة حكم تقوم بأعماله. ورغم ثقل الشخصيات المشاركة في الانقلاب العسكري، فقد فشل بسبب الجماهير التي كانت قد فقدت الإيمان بالاتحاد السوفييتي نتيجة الانهيار الاقتصادي الشامل.
لم تقم الوحدات العسكرية المشاركة بضرب الجماهير المناهضة للانقلاب العسكري في الاتحاد السوفييتي، ولم تكن قيادة الانقلابيين قوية كفاية لاتخاذ القرارات الحاسمة الجريئة في تلك اللحظات، وتمّت نهاية الانقلاب العسكري ببزوغ نجم بوريس يلتسين وتوقيع رؤساء الجمهوريات السوفييتية الـ15 على وثيقة سقوط الاتحاد السوفييتي.. ثمة تشابه كبير بين انهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار دول عربية مثل ليبيا واليمن وتونس وسوريا والعراق إلى حد ما.
في السنوات العشر الأخيرة راجت فكرة الدولة المدنية – الديمقراطية بوصفها «طريق الخلاص»، وبدا أنها أطروحة جامعة لمختلف تيارات الفكر والسياسة في المجتمعات العربية.. لكن التعمق في الفكرة وتطبيقاتها اللاحقة، خصوصاً في سنوات الربيع العربي الأربع، أظهر أننا أمام «شعار مُضلل» يخفي من الخلاف والانقسام أكثر مما يستبطن من المشتركات ونقاط الالتقاء. وتظهر تجارب عربية معاصرة، حقيقة لا يرغب كثيرون في الاعتراف بها..
فالسودان ما كان ليتعرض للانقسام بين شمال وجنوب، دع عنك الانقسامات اللاحقة، لولا الزج بالدين في السياسة والحكم، ما أدى إلى شعور قسم كبير من أبناء البلاد ومواطنيها بأن الدولة ليست دولتهم، وأنهم مواطنون من درجة ثانية فيها.. والعراق تشظى بعد أن دخلت «المرجعيات الدينية» والأحزاب الطائفية على مؤسسة الحكم في بلاد تتميز بتنوعها الكبير، قومياً ودينياً ومذهبياً وعرقياً.. وسوريا تشهد وضعاً مماثلاً..
ومصر كانت على شفير انقسام أهلي عميق مع صعود جماعة الإخوان إلى سدة الحكم، بخطابها الديني الذي استبعد منذ اللحظة الأولى قطاعاً مهماً من المصريين، لا يقتصر على أقباطها وحدهم، بل وعلى مصريين مسلمين ينتمون لمدارس فكرية وسياسية «لا دينية».
الانقسام الذي ساد العرب في الستينات وما تلاها كان محصوراً بين معسكرين، لكن الانقسام الذي نشهده الآن أخطر بكثير، إذ إنه يجري داخل الدولة الواحدة من جهة..
ومن جهة ثانية بين تحالفات برؤى مختلفة للخلاص. كما أنه انقسام ديني بامتياز، وما يجري في دول الربيع العربي أوضح دليل. والخاسر طبعاً في النهاية هو الشعوب والأمة العربية جمعاء، وكذلك المسلمون الذين أصبحوا في نظر العالم إرهابيين متوحشين بفضل داعش وأخواتها!