الفوضى الفكرية وتجديد الخطاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثقافة الأزمة، ثقافة الفقر، ثقافة الدولة، ثقافة المدينة، ثقافة الريف، ثقافة الفساد والاستبداد، ثقافة الغلو الديني، ثقافة الطائفية والقبلية، ثقافة الانحراف الوظيفي في إطار الدولة، ثقافة البيروقراطية، ثقافة حقوق الإنسان، ثقافة الحرية، ثقافة المواطنة، ثقافة التحايل على المعايش، ثقافة رجل الدولة.. الخ. دخل مفهوم الثقافة ـ على غموض استخداماته السائدة - إلى نظم إنتاج الخطابات السياسية والثقافية والاجتماعية...

في الصحف والإعلام المرئي والمسموع، وخطب «الساسة» ـ نقولها تجاوزاً ومجازاً يجافي الواقع الموضوعي - وامتد توظيف هذا المفهوم الغامض في الاستخدامات الشائعة، إلى لغة بعض المثقفين والإعلاميين، بل إلى عوامهم ممن لم يتلقوا تعليماً وتكويناً علمياً ونظرياً يتسم بالدقة والوضوح والقدرة على استخدام هذا المصطلح، شأن غيره من مصطلحات العلوم الاجتماعية الحديثة والمعاصرة.

أصبحت الكلمة شائعة إلى درجة أنها لم تعد لفرط غموضها المسيطر تظهر وكأنها فقدت معناها ودلالاتها، وتبدو وكأنها حل ما، وتفسير ما لمشكلات وأزمات ممتدة لم تجد لها بحثاً علمياً رصيناً، أو دراسات تتقصى جذورها وتطوراتها وتعقيداتها، ومن ثم أخذت مفردة «ثقافة» و«ثقافي» تتداعى وتستخدم وكأنها تصف وتفكك وتحلل كل الظواهر والأزمات المعقدة والممتدة في حياتنا، وقادرة على تفسير كل شيء..

ولكنها لا تفسر شيئاً. من هنا يبدو أحد مكامن الخلل في العقل الأكاديمي، والعقل السياسي والعقل الديني النقلي في بلادنا. يستخدم مفهوم الثقافة في مجال الانفجار السكاني المفرط، ويقال إنها ثقافة الإنجاب، وفي مجال الوظيفة العامة واختلالها وتدني مستويات أدائها وضعف الاحترافية والإنجاز، بأنها تعبير عن ثقافة البيروقراطية والفساد، والحديث عن تراجع التسامح، وقيم العدالة والخصوصية والمساواة وانتهاك حريات الفكر والإبداع والرأي والتعبير، والتدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، يقالُ إن ذلك يعود إلى الثقافة التسلطية، أو ثقافة التكفير، أو ثقافة التطرف.

من هنا يبدو التحليل الثقافي الغائب ـ إلا قليلاً - جزءاً من نظام الموضة الخطابية والبحثية، ولا يعدو أن يكون أحد أساليب تجميل الخطاب، وجزءاً من اللغو والثرثرة اللفظية، والإنشاء اللغوي لا أكثر ولا أقل، ومن ثم يفقد المصطلح والمفهوم معناه، ومن ثم دلالته واستخدامه العلمي.

لا شك أننا أصبحنا أمام أزمة ممتدة وخطيرة، وتشكل إحدى إعاقات تطور الفكر المصري والعربي عموماً، وثمة استثناءات لقلة القلة من كبار المثقفين والمفكرين والباحثين والسياسيين، يستخدمون المصطلحات والمفاهيم استخداماً سليماً. والسؤال؛ ما هو سبب هذه الظاهرة ـ الأزمة التي أدت إلى حالة من الفوضى الفكرية العارمة؟ أستطيع أن أطرح مجموعة من الأسباب على سبيل التمثيل لا الحصر في ما يلي:

1ـ إن بعض المصطلحات والمفاهيم والمقاربات المنهجية تتم استعارتها من مراجع وبحوث العلوم الاجتماعية (اللغة والأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا، والعلوم السياسية والقانونية والفلسفة.. والفنون والآداب.. الخ)، وغالباً تستدعى وتستعار متأخرة عديد العقود، بعد أن يتجاوزها تطور هذه العلوم والكتابات في الدرس الأكاديمي الغربي، ومن ثم تكون استخداماتنا أولية وسائلة وتجاوزها تطور العلم.

2ـ بعض الدرس الأكاديمي النظري السائد في كافة فروع المعرفة الاجتماعية في الجامعات، يبدو مبسطاً وانتقائياً، ويقدم معمماً ومنتزعاً من سياقاته ومن تاريخ المعرفة داخل هذا الفرع في الفروع العلمية. من هنا ظهرت رطانة اصطلاحية غامضة، وممارسة انتقائية لاستخدام المصطلح.

3 ـ غياب ترجمات رصينة للمراجع الأساسية وتطوراتها في مجال العلوم الاجتماعية.

4 ـ يقدم المصطلح النظري مفصولاً عن نشأته ودورات تطوره، وتجاوزه في الممارسة النظرية والحقلية، والأخطر غياب ترجمة البحوث الميدانية التي أدت إلى بلورة مصطلحات ومفاهيم جديدة في إطارها.

6 ـ استخدام بعض المصطلحات في الخطابات الإعلامية والسياسية في غير مجالها أو معانيها، لإضفاء أهمية وهيبة على من يستخدم هذه المفاهيم.

7 ـ ضعف وهامشية البحوث الميدانية للظواهر والمشكلات، ويقدم المصطلح كبديل عن بحث عوامل وأسباب وتطورات المشكلات موضوع الخطاب حولها.

من ضمن المصطلحات الشائعة أيضا، «الخطاب» الذي يستخدم بكثافة منذ عقد الثمانينيات، بعد ترجمته عن الفرنسية والإنجليزية، كجزء من ثورة اللسانيات المعاصرة التي تمددت وطورت العلوم الاجتماعية كلها. ويستخدم المصطلح في عديد المجالات، ومن هنا شاع مصطلح الخطاب السياسي..

والخطاب الديني، والخطاب الثقافي، والخطاب النقدي، والخطاب الروائي والشعري، وعادة ما يستخدم معه مصطلح تجديد الخطاب الديني، أو تجديد الخطاب السياسي، أو الخطاب الثقافي. وحتى هذه اللحظة، قليلة هي البحوث المعمقة التي جرت على خرائط الخطاب وبنياته ومرجعياته.

ومن هنا يبدو استخدام مصطلح الخطاب الديني والخطاب السياسي والثقافي، وكأنه محض رطانة خطابية ولغو، وفي أحيان أخرى ثرثرة مجانية لا قيمة لها إلا كونها ذروة أزمة فكرية ممتدة. إن دراسة خريطة الخطابات في الأسواق الدينية العولمية والإقليمية والوطنية، هي الخطوة الأولى للخروج من دائرة الكلام المجاني والشعارات «والكليشيهات» الشائعة..

والتي باتت تشكل عائقا كثيفا إزاء البحث الموضوعي والجاد، حول الأزمات الموضوعية والتاريخية والمرجعية واللغوية للخطابات الوضعية السائدة حول الدين أياً كان (إسلاميا أو مسيحيا.. الخ)، ومرجعية هذه الخطابات..

ونمط التفسير والتأويل الذي يستخدمه منتجو الخطابات الدينية. لا يوجد حتى هذه اللحظة درس تحليلي لهذه الخطابات التي يعاد إنتاجها ويتم توزيعها على نطاق واسع، من خلال الكتب والخطب والتفسيرات والتأويلات التي سادت مراحل تاريخية وسياقات مكانية واجتماعية محددة، في تاريخ تطور الفقه وعلم الكلام والإفتاء والتفسير، لدى المذاهب الإسلامية. والسؤال الملح لا يزال مطروحاً؛ كيف يتم تجديد الخطاب الديني في هذا الإطار؟!

خذ أيضا الخطاب حول تجديد الخطاب الثقافي، هل تمت دراسة الخطابات الثقافية السائدة على تعددها وبنياتها ومرجعياتها وأسئلتها، واصطلاحاتها وأنساقها اللغوية، وأزمنة هذه الخطابات، وتضميناتها ـ أو تناصاتها - وما هو تشخيصها للأزمات الثقافية التي تواجه الثقافة المصرية ومكوناتها، ومعها الثقافات العربية وتعددها، وتطوراتها التاريخية.. الخ؟ هل هناك تمييز بين أنماط هذه الخطابات المتعددة ومستويات استهلاكها، والصراعات والتنافسات في ما بينها؟

هل تم درس طبيعة الأسئلة والمعاني والقيم التقليدية، واللاتاريخية التي تتعامل معها هذه الخطابات؟ هل تم درس طبيعة التطورات العولمية وما بعد الحديثة، وتطور الخطابات الثقافية السائدة عربياً لها، ولأسئلتها ومفاهيمها الجديدة المتغيرة في إطار تحولات عولمية وثورة رقمية تحطم وتشرخ بعض الأبنية والمفاهيم والأطروحات حول الحداثة والتحديث والأمة والهوية والدولة القومية؟

من هنا لا نستطيع تجاوز حالة الفوضى الفكرية والاصطلاحية واللغوية، دون البحث الموضوعي والدقة في استخدام المفاهيم ومدى تاريخية استخداماتها في الجدل العام الذي يعتريه الغموض والسيولة والفوضى، ومن ثم عدم قدرة الفاعلين في مجال إنتاج الخطابات على الوصول إلى تفاعلات إيجابية وبناءة في تطوير مقاربات لأزماتنا ومشكلاتنا المتراكمة.

من ناحية أخرى، تحرير مدارس الفكر السياسي والديني المصري والعربي الراهن، من الجوانب الإيديولوجية السوقية، والتوجهات اللاتاريخية واللاعلمية التي تكتنف بعضه في هذا الصدد. الدرس الأكاديمي والبحثي الاجتماعي الرصين، هو مدخلنا لتجديد ثقافتنا المأزومة والمعاقة.. الدرس قبل الثرثرة الخطابية، هو الغائب في الخطابات حول تجديد وتطوير الخطابات الدينية والسياسية والثقافية.

 

Email