الموسيقى والسرد والطعام والهوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل الكوكاكولا، وكنتاكى، والسوشى، والفول والفلافل، والتوابل الحريفة، وسواها لها علاقة بهوية المجتمعات والدول التي تتذوق هذه الأنواع المتنوعة من الطعام والشراب الناعم، أو الثقيل؟ يبدو هذا السؤال غريباً عن غير المتخصصين في سوسيولوجيا الثقافة والمطبخ والطعام، لاسيما في مصر وبعض أوساط النخب العربية، ويرجع ذلك إلى طبيعة ولغة ومصطلحات خطاب الهوية وسياساتها الذي يطرح على ساحة الصراع السياسي والنظري والمفهومي، لاسيما منذ هزيمة يونيو 1967 وحتى هذه اللحظة، واستغراق الفكر المصري المعاصر والثقافة العالمية بمجموعة من المطارحات والإشكاليات الكبرى التي تدور على مستويات التنظير والتجريد مع بعض من الإحالات إلى وقائع أو أمثلة تاريخية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية انتقائية، وتلفيقية حيناً أو تأليفية أحياناً، أو تركيبية على نحو استثنائي.

هل هناك علاقة بين وجبات الفول وطرائق طهيها وتنوع ذائقة كل وجبة بالهوية المصرية؟ هل هناك علاقة لطقس الفرح الشعبي ومناطقه وأغنياته ورقصاته بالهوية؟، هل هناك علاقة لأغاني الحصاد، وعمال البناء بالهوية؟ أصوات أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمد قنديل وشادية ومحمد عبدالمطلب، وليلى مراد وعبدالحليم حافظ ومحمد فوزي وهدى سلطان وسواهم ومجايليهم، وأصوات وأغاني الأجيال اللاحقة، هل لها علاقة بهويتنا؟

موسيقات سيد درويش والقصبجى وعبدالوهاب ومحمد الموجي ومحمود الشريف، ومحمد صدقى، وكمال الطويل، ومحمد فوزى، ومنير مراد ومجايليهم، وألحان الأجيال التالية بالهوية؟ السرديات المصرية الروائية، والقصصية، والشعرية هل لها علاقة بهويتنا المصرية؟

هل للنحت المصري في جميع مراحل تطوره التاريخية الفرعونية، وما بعدها، وحتى محمود مختار وعبد الهادي الوشاحي وآخرين علاقة بالهوية؟ لماذا نطرح هذا السؤال في عديد المجالات من الأكل وطعمه وذائقته، والموسيقى والغناء والرسم والنحت والسرد.. الخ، في علاقتهم بالهوية؟ لعديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي: أن سياسة الهوية وإشكالياتها وصراعاتها هو موضوع دولتي وسلطوي بامتياز، وأن خطابات الهوية المتنافسة والمتصارعة تطرح مفهومها ومكوناتها بوصفها موضوعاً نخبوياً ونظرياً متعالياً، وعلى نحو لا تاريخي، ومن ثم أشاعت في الإدراك العام مجموعة من الصياغات والمعاني التي تربط بين الهوية والدين والمعتقد والمذهب ـ أخيراـ والتاريخ، وأنها موضوع مكتمل وناجز في مرحلة تاريخية ما ومستمر ولا يتطور.

من ثم نحن إزاء مفهوم انتقائي للهوية بامتياز، كما تطرح الهوية وتحدياتها ومكوناتها في الخطاب الهوياتي وكأنها موضوع مجرد، هي ومرجعياتها، وذلك للتبسيط، وتيسير عملية ترويجها المبتسر والمختصر في أوساط الجمهور، لاسيما حول الدين والعقيدة والمرجعيات المستمدة منه للحشد والتعبئة الدينية. من هنا غياب الربط بين الهوية وتطورها ومكوناتها المتعددة وبين حياة الناس، وأفراحهم وأشواقهم وحبهم وآلامهم ومشاكلهم وتاريخهم وتطوراته وتغيراته.

نعم الوجبات الصينية، والسوشي الياباني، والطعام الهندي الحريف والكاري، والفول والطعمية، والكسكس علامات للهوية وجزء من أنسجتها وتراكيبها المتعددة والمتحولة. الفول والخبز ـ يسمى «العيش» لأنه رمز على استمرارية الحياة- هو أيقونة الطعام المصري، وجزء رئيس ومركزي في حياة غالبية المصريين، ويخترق الفئات الاجتماعية، والمناطق، وعابراً لمراحل التاريخ الكبرى.

إذا كان الفول ـ وأنواع طهيه المختلفة ـ تعبيراً عن عسر الحياة للغالبية العظمى للمصريين تاريخياً، إلا أنه تحول إلى تعبير عن حياة المجموع المصري- بكافة مكوناته وتعدديته- ومن ثم شكل أحد موحدات الحياة اليومية.

إن أنواع وأشكال طهي الفول تعكس الخبرات الإنسانية للشعوب الفقيرة في إبداع طعوم وذائقة ورائحة للوجبات فقيرة الإمكانيات لكى تستمر الحياة وإبداعها. إن الوجبات المشتركة والعابرة للطبقات الاجتماعية والثقافة والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية هي تأسيس يومي ومستمر للمشتركات داخل جماعة ما.

الفول المصري بات سمتاً سوسيو- ثقافياً بامتياز، وتمدد في المنطقة وأصبح جزءاً من الوجبات الأساسية من العراق وسوريا ولبنان والخليج وشبه الجزيرة العربية، والسودان وبقية بلدان المنطقة العربية. كما أن وجبة الكسكس ـ على اختلاف طرائق طهيها باللحوم، والسمك، والخضروات، وزيت الزيتون ـ هي تعبير عن المنطقة المغاربية من تونس إلى الجزائر إلى المغرب، وهو ما يشكل حزام الكسكس، كما أن مصر والسودان هما حزام الفول.

إن بعض الأغاني والرقصات والموسيقى والأصوات الغنائية الشعبية هي جزء من تراكيب الهوية التي يحاول الخطاب الهوياتي الديني استبعادها بتركيزه على مكون واحد مرتبط بها وبالمعتقد على نحو لا تاريخي، وذلك لحرف وعي غالبية الشعوب عن الهوية كحياة تنبض بالدينامكية والحيوية وإبداع الناس في الطعام، والغناء والموسيقى، والرقص، والرسم، والنحت، والمرويات، والأساطير والمتخيلات، والمخيلات والذاكرات الجماعية.. الخ أن الخطاب الهوياتي السائد يسعى إلى إفقار تاريخ الأمة المصرية ومكوناتها وتعددياتها في إطار الوحدة والجوامع المشتركة.

Email