القضاء والحريات وسيادة القانون

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحد أبرز معالم الدولة الديمقراطية الحديثة، يتمثل في التوزيع الوظيفي للقوة بين السلطات الثلاث، ومبدأ الفصل والتعاون بين السلطات وفق الهندسة الدستورية التي تم التوافق عليها حول شكل النظام الدستوري ـ برلماني أو رئاسي أو شبه رئاسي على نمط الجمهورية الخامسة الفرنسية وتعديلاتها، أو وفق حكومة الجمعية، وأياً كانت الاختيارات السياسية لهذا النظام أو ذاك، تبرز مسألة استقلال السلطة القضائية..

وذلك لأنها تشكل حماية لأعمالها من تدخلات السلطتين التنفيذية والتشريعية. من هنا شكل تدخل البرلمان في المرحلة الانتقالية الأولى والثانية في أعمال السلطة القضائية وجماعة القضاة، والاعتداء عليها، أحد أخطر انتهاكات مبدأ الشرعية الدستورية، وسيادة القانون، لأن هذا الاعتداء الغاشم لم يقتصر على السعي لتغيير قانون السلطة القضائية..

وإنما الخطاب القدحي- ولا أقول الانتقادي- للقضاء والقضاة، والأخطر هو محاصرة مجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا للحيلولة دون إصدارها لأحكام مهمة ومؤثرة على مسار العملية السياسية كلها في المسارات الانتقالية.

من أبرز المخاطر على الاستقرار السياسي المنشود تحقيقه في مصر هو التشكيك من بعضهم بحسن أو سوء نية في مدى استقلالية القضاء والجماعة القضائية وحيدتهم في النزاعات ذات الطبيعة السياسية ..

ومن ثم يمثل إصلاح وتطوير قانون السلطة القضائية أحد مداخل الاستقلال الحقيقي والشامل للقضاء والقضاة حتى يمكن حمايتهم من أي تدخلات أياً كان نوعها وأطرافها أو مستواها في الأعمال القضائية، وهس الفصل فس المنازعات القانونية التي تنشب بين المواطنين والدولة، وبينهم وبين بعضهم بعضاً، أو من الأشخاص الطبيعية إزاء الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية الأخرى، أو من هؤلاء على بعضهم بعضاً أو إزاء الدولة أو المواطنين.. الخ.

إن ظاهرة التدخل في أعمال السلطة القضائية والقضاة، تشكل ظاهرة شائعة في النظم الشمولية- الديكتاتورية- والتسلطية التي سادت في أعقاب دولة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي. من هنا كانت بعض الجماعات القضائية تمثل أداة بيد الحاكم الفرد للتنكيل بخصومه السياسيين، أو المعارضين، أو زملائه المغضوب عليهم، لأن هذه النظم الاستبدادية لا تعرف معنى دولة القانون ولا استقلال القضاء والقضاة..

حيث يشكل الحاكم وبطانته وأجهزته القمعية مركز النظام السياسي الشمولي والاستبدادي، ومن ثم تغدو إرادته ومشيئته وأهواؤه هي القانون، والأحكام الجائرة هي رغباته وأوامره التي لا راد لها.

من هنا ظهرت أشكال الاستبداد الدستوري والقانوني والقضائي والقمع وعنف جهاز الدولة المفرط إزاء المعارضين، وتمدده ليشمل غالب العاديين.

لا شك أن ظاهرة التدخل في عمل القضاء والقضاة التي سادت عديدا من تجارب دول ما بعد الكولونيالية، كانت موضعاً لانتقادات عنيفة وحادة، من عديد الجوانب وعلى رأسها العصف بالحقوق والحريات العامة والفردية..

وبناء حدود وفرض قيود ثقيلة وباهظة على المجال العام السياسي، بحيث لا يتنفس المواطنون نسائم الحرية وتجلياتها على المستويين الفردي أو الجماعي، ولا التفكير أو التعبير عن أفكارهم وآرائهم وإبداعاتهم ومواقفهم أياً كانت إبداعية أو فكرية أو فنية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية.

من هنا شكل تراكم قيم الإجماع القسري وراء سياسات وأيديولوجية الحكام وأجهزتهم القمعية الرمزية والمادية جزءاً من الثقافة السياسية التسلطية التي تداخلت منظومتها القيمية في عديد من أنماط السلوك الاجتماعي والبيروقراطي والأمني التي ركزت على ترسيخ قيم الطاعة والولاء، والربط بين مفهوم الوطنية واتباع أوامر ونواهي الحاكم وحاشيته..

ومن ثم غابت قيم المواطنة السياسية وغامت قيمة الحرية وتراجعت لصالح الولاء للحاكم والنظام.

وتم إشاعة ثقافة الوشايات والنميمة والخوف من الحاكم وبطانته وتمددت تابوهات السياسة والدين والجنس، حيث تسيطر وتتكاثر وتتسع لتشمل كلام الحاكم وإشاراته وتوجيهاته ليصبح كلاما مقدسا لا يجوز الاقتراب منه، إلا بإعادة تلاوته وترديده وهكذا أدت ديكتاتوريات ما بعد الكولونيالية إلى تجفيف عديد من منابع الإبداع والمغامرات الفكرية والفنية..

والأخطر قمع المبادرات الشخصية - ولا أقول الفردية - والجماعية في مهادها خشية أن تكون مدخلاً للعمل السياسي الذي تم تأميمه ومصادرته لصالح التعبئة والحشد وراء الحاكم المطلق. من ناحية ثانية كان دورهم بارزا في حماية الحقوق والحريات الشخصية، ومن ثم كانوا بمثابة الحصن الحصين لحماية الفرد الأعزل إزاء السلطة، وإزاء ذوي القوة والمكانة والنفوذ في المجتمع أياً كانت مواقعهم.

لابد من وصل ما انقطع مع المدارس القانونية الكبرى، لكى تستمر المدرسة القضائية المصرية متجددة، وتمثل مع المدرسة الهندية أهم مدرستين خارج الثقافتين القانونيتين الإنجلو ساكسونية واللاتينية.

 

Email