أزمة المفاهيم السياسية المتخيلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أعقاب انهيار الإمبراطورية السوفيتية والماركسية وتفكك الدول الاشتراكية، بدأت تلوح بقوة إرهاصات تفكك في المفاهيم، والنظريات السياسية حول الدولة القومية، والسيادة، والأحزاب السياسية، وعلاقة الدولة بالمجتمع. كانت إشكالية المعنى، أو سقوط المعاني التي ارتبطت بالإيديولوجيات والأنساق والسرديات الكبرى هي أبرز ملامح المأزق التاريخي الذي دخلت إليه المنظومات الفكرية الكبرى، والمفاهيم السياسية والفلسفية التي تنطوي عليها، والتي شكلت المخيال السياسي والتاريخي، وعقول النخب السياسية ،حول استراتيجيات بوتقة الصهر لإنتاج التكامل الوطني في ظل مجتمعات انقسامية تعتمد على مجموعات من المكونات الأولية العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والمناطقية والطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية.

كانت هندسة الدولة في هذه المجتمعات تعتمد على أشكالها الأولية التي صيغت وبنيت في العصر الاستعماري ومعها بعض النخب التقليدية، أو شبه الحديثة.

منظومة من المفاهيم المتخيلة التي أنتجت في إطار التجارب والتنظيرات في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي. لم تُولد هذه المفاهيم وتتطور في معامل نظرية- إذا جاز التعبير- وإنما كانت جزءاً من تجارب تاريخية حية، وفي إطار نهاية الحرب الباردة، وسقوط الكتلة السوفيتية في إطار عمليات وصيرورات العولمة، وما بعد الحداثة، تفككت الأبنية الإيديولوجية الماركسية، ومفاهيمها حول ديكتاتورية الطبقة العاملة، والحزب السياسي الوحيد، وبدأت إشكالية المعنى والبحث عن معان أخرى في إطار المجموعات الأولية، وهوياتها وجذورها المتخيلة.

من هنا نستطيع القول إن أزمة الأحزاب السياسية في عالم معولم يقود إلى أنها كانت جزءاً من الهندسة السياسية لحركة القوميات وتطور الرأسمالية الأوروبية أساساً، وبناء الدولة الأمة،وأدى التحول إلى ما بعد الحديث إلى شروخ وتآكل وتفكك مفاهيم القومية والأمة، والانتقال إلى انفجار الهويات الكبرى إلى هويات صغرى، وشظايا.

من هنا جاءت المراجعات الكبرى لمفاهيم تهرم وتتراجع وفي الطريق إلى تجاوزها إلى ما بعدها بوصفها مفاهيم متخيلة.

إن أزمات الدولة القومية، والأمة والقومية والسيادة كمفاهيم، وفي تجسيداتها الواقعية والتاريخية، تتفاقم في عصر التذري والشظايا ورماد بعض الأفكار والمفاهيم المتخيلة ومن ثم أدت إلى انكسار إمكانات التعبئة في كثير من البلدان، وحاولت نخب ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية أن تؤسس لهذه المنظومة من المؤسسات والمفاهيم بقوة قمع أجهزة الدولة الإيديولوجية الأمنية والعسكريتارية ومخزون هائل من القوة القمعية وبالحديد والنار وهراوات الجنود، والمعتقلات والاغتيالات والسجون والمحاكم. من هنا تشكلت جذور التفكك والضعف وأرضية لتحرك الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، وتصاعد المطالب «القومية» واللغوية والمناطقية والدينية والمذهبية.. الخ.

وتفاقمت مع سيولة واضطراب الإقليم وصراعاته في أعقاب بعض الانتفاضات العربية- مصر وتونس- والفوضى والحرب الأهلية في اليمن، وسوريا، واضطرابات وانقسامات دولة ما بعد صدام في العراق.

لم تستطع دول ونظم المنطقة أن تستوعب الانفجارات الداخلية، وتمدد الجماعات الإسلامية السياسية الجهادية، وسيطرة بعضها على أراض وأسلحة متطورة، وموارد للثروة النفطية.. الخ، من ثم ضاعت الأحزاب الطائفية، والدينية والمذهبية أسيرة لانتماءاتها، وفشلت في أداء دور التمثيل السياسي لمصالح القوى الاجتماعية التي تعبر عنها أو تدعي ذلك.

إن ضحالة التكوين والخبرة السياسية لنخب الأحزاب والحكم الانتقالي، تجعلهم يستعيدون بعض الشعارات القديمة من أجل جذب بعض المصريين إلى أحزابهم، أو التوافق على عقد سياسي يبدو قديماً في مفاهيمه، وشعاراته، ويتجافى مع تغيرات كبرى في عالمنا والإقليم والمجتمع المصري.

من هنا تبدو سياقات التغير، ومتغيراته تعصف بالأفكار المتكلسة، وجمود الأفكار، وشيخوخة النخبة المصرية في غالب مكوناتها. لم تعد الفكرة القومية جاذبة في عالم يعصف بها كأحد المتخيلات، ولم تعد الدولة الحديثة وتناقضاتها وجمودها جاذبة. إن ظاهرة تفتت الأحزاب وضعفها وعدم قدرتها على بلورة تحالفات، واندماجات جادة، هي تعبير عن غياب رؤى جديدة وفقدان للخبرة السياسية، والمهارات، ودلالة كبرى على العجز عن الفعل السياسي، وتطوير الأفكار والمفاهيم، والعمل الجاد من أجل مواكبة تغيرات تعصف بأجيال، ومفاهيم، وأحزاب وأنظمة تسلطية يراود بعض قادتها العودة إلى عصرها الشمولي الذهبي! وا أسفاه!

Email