أحزاب موت السياسة المعلن!

ت + ت - الحجم الطبيعي

من البداهات أن لا أحزاب بلا سياسة، ومن ثم يبدو التلازم بينهما عضوياً، وغالباً ما يذكر مصطلحا حزب وأحزاب ومعهما الصفة «سياسي». من هنا يثور السؤال البسيط: هل يمكن للأحزاب أن تؤدى الوظائف والأدوار المنوطة بها في ظل موت السياسة أو أن تنشط في ظل قيود أمنية وبيروقراطية وقانونية ثقيلة على المجال العام المحاصر؟

هل تستطيع الأحزاب التحرك وسط قواعد اجتماعية في المدن المريفة والأرياف المتدهورة في تخلفها في ظل ظاهرة ترييف السياسة، وتديين السياسة؟

غالباً ما يتم استدعاء «الحقبة الذهبية» للسياسة في مصر حول المرحلة شبه الليبرالية 1923-1952، كتعبير ومثال على إمكانات نجاح الديمقراطية الغربية والنظام البرلماني في البيئة الاجتماعية والثقافية المصرية.

تستدعى النوستالجيا السياسية حيناً لنقد التسلطية والثقافة السياسية البطريركية المحدثة، أو الرعائية بعد ثورة يوليو، وحيناً آخر لمديح بعض من الليبرالية وآثارها في النظام السياسي، والنخبة وفى الثقافة، والتغير الاجتماعي.

كانت أشكال حداثية مشوهة وتعتمد على مقاربة تقليدية، ومن ثم لم نستطع أن نبني أحزاباً سياسية حقيقية ذات بنيات حقيقية.

بعد ثورة يوليو 1952 ومشروعها الاستقلالي والاجتماعي الكبير، كان مفهوم «الكوربوراتية»، وتحالف القوى الثورية المعادية للاستعمار على النمط الماوي، وإرث الوفد في مجال الوحدة الوطنية، والفكرة الاشتراكية حول العدل الاجتماعي وراء إدراك ناصر لمصر ودورها في إطار حركة القارات الثلاث. لا شك أن التسلطية السياسية أدت إلى إنعاش النزعة الأبوية السياسية حول كاريزما ناصر..

ولكن أدى ذلك إلى هيمنة فكرة الإجماع والكل في واحد ـ المستعارة من توفيق الحكيم ـ لمواجهة تحديات الإقليم والقوى الغربية، ما أسهم في تكريس التنظيم السياسي الواحد. لا شك أن الانقطاع في مسار الديموقراطية السياسية، لصالح العدل الاجتماعي أثر سلباً في تجربتي التعددية السياسية الشكلية والمقيدة أيام السادات ومبارك وأسهمت ثقافتهما العسكريتارية، في إدراكهما للتعددية الديمقراطية كمحض أشكال وظفت في رسم صورتهما لدى الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية.

كانت الأحزاب السياسية مجرد أدوات في الماكياج السياسي أو عملية تجميل صورة الحاكم الجمهوري ونظامه فقط. أدى موت السياسة إلى حالة تجريف شامل للكفاءات والمواهب، وإلى ركود وضعف مستويات النخبة السياسية الحاكمة، وإلى إقصاءات ممنهجة للعقول المبدعة في جميع التخصصات وانحطاط الثقافة السياسية.

إن خرابات التجريف والاغتيال المعنوي للكفاءات والمواهب أدت إلى إعاقة تطور الأفكار السياسية، وإلى تمجيد الجهل والخنوع، واللاتسيس. من هنا ولدت الجماعات الاحتجاجية السياسية والاجتماعية ـ كفاية وأخواتها ـ التي مهدت للعملية الثورية في 25 يناير 2011، لم تكن ثمة نخب شابة بديلة ومنظمة وذات رؤى وأفكار وبرامج وسياسات لإحداث تغيير سياسي بنيوي في دولة هرمة.

لم يكن ثمة وعى ـ في حده الأدنى ـ بكيفية الانتقال من موت السياسة إلى استعادتها حية وفاعلة، على نحو ساعد على إجهاض ما تم، بل أدت إلى سيطرة القوى الإسلامية السياسية المنظمة التي تواطأت مع المجلس العسكري الأول ومع أطراف دولية ـ أميركا والمجموعة الأوروبية ـ على هندسة خرائط الطريق الأول والثانية، في سبيل صعودها إلى سدة السلطة في البلاد، وفشلها الذريع والتاريخي لأنها افتقرت إلى رأسمال خبراتي حول الدولة وثقافاتها وإدارتها، ناهيك عن ضحالة الخيال السياسي.

والأخطر الخلط بين العقل السياسي الدولتي وبين ثقافة التنظيم الصارم والطاعة العمياء، التي لا تأبه سوى بالانصياع لنمط من التسلطية التنظيمية والإيمان الديني بإيديولوجية تخلط بين تأويلات العقيدة والوعى المغلوط والزائف حول معنى ودلالة الدولة الأمة الحديثة وتحديات ما بعدها في واقع تخلف تاريخي مركب ومأزوم، وتجريف شامل للمواهب والكفاءات.

وللحديث بقية.

 

Email