أزمة الأحزاب السياسية المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الظاهرة الحزبية المصرية تشكل حالة خاصة، في عجزها وضعفها التاريخي وهزالها البنيوي، في تشكيلاتها، وهياكلها الهشة، ونمط القيادة الهرم، وغياب الخيال السياسي الخلاق، وعدم القدرة على صياغة لغة سياسية جاذبة لقواعد اجتماعية داعمة لها.

 منذ تجربتي التعددية السياسية الشكلية المقيدة في عهدي السادات ومبارك، لعبت الأحزاب الرسمية دور الممثل الثانوي (الكومبارس)، الذي يلعب دور صامتا حيناً، أو يلقي ببعض الكلمات في أحيان أخرى، وذلك دونما تأثير فاعل على عملية صناعة القرار السياسي أو الإنتاج التشريعي، إلا على نحو استثنائي.

 كان دور الأحزاب، ولا يزال، جزءاً من «الماكياج» السياسي، أو ديكورات النظام التسلطي التي ترمي للإيحاء بأن ثمة تعددية سياسية وتحولاً نحو الديمقراطية، ومظهراً آخر لتجميل البلاط الجمهوري أمام الإدارات السياسية الأميركية ومراكز صنع القرار الأوروبية، وأمام الإعلام الغربي على وجه الخصوص.

«السلطان الجمهوري»، أياً كان شخصه، لم يكن التعدد السياسي والقيم الديمقراطية جزءاً من البناء العقيدي له، أو إدراكاته السياسية لمعنى الدولة القومية الحديثة، ولا لمعاني الحداثة السياسية والقانونية، ومن ثم كان إدراكهم للمعارضة وأحزابها على أنهم محض أدوات يتلاعبون بها وفقاً لمشيئتهم.

 هذا الإدراك الأداتي هو الذي ساد إزاء الحزب الحاكم (من حزب الوسط إلى الوطني الديمقراطي المنحل)، ومن هنا لم يتجاوز دوره حدود تمرير القرارات السياسية وتأييدها بإفراط، أو تمرير مشروعات القوانين التي تتقدم بها الحكومات المتعاقبة.

كان أقرب إلى تجمع مصالح وفساد، من بعض القوى التقليدية في الأرياف ومجموعات المصالح البيروقراطية ورجال الأعمال والتجار، وهؤلاء جميعاً كان رائدهم الحزبي مجموعة من المصالح الضيقة....

 وحماية أشكال من الفساد السلطوي والهيكلي، في الدولة والسلطة والبيروقراطية وفي القطاع الخاص. كان بعض قيادات الأحزاب المعارضة قبل 25 يناير، يحتمي بالغطاءات الحزبية كونه مدخلاً للمساومة السياسية، للدخول إلى التشكيلات البرلمانية مع النظام والأجهزة الأمنية.

 من هنا نستطيع القول، إن الأحزاب السياسية لم تكن جزءاً من هندسة سياسية تعددية تتسم بالفعالية والقدرة على التغيير السياسي السلمي، لأنها ولدت على نحو قيصري في إطار الهندسة السلطوية والأمنية خلال أكثر من أربعين عاماً. ولدت معاقة وتتغذى على دماء سلطوية معطوبة، وتعتمد في تمثيلها البرلماني، إن أتيح لها ذلك، على صفقات صغيرة مع الأمن والحكم..

 وكانت حركتها في الواقع الاجتماعي محدودة وهامشية، لا تعدو إصدار صحيفة أو أكثر لتُعبر من خلالها عن آرائها السياسية، أو أخبار قادتها، ومن ثم لم يكن ثمة نشاط مؤثر في أوساط جماهيرية إلا على نحو محدود واستثنائي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما امتد إلى بعض الصفقات مع جماعة الإخوان المسلمين منذ انتخابات 1984.

ثمة قيود قانونية وإدارية وأمنية، فرضها النظام وأجهزته القمعية على نشأة الأحزاب السياسية وتمريرها والقبول الرسمي بها، بقطع النظر عن مدى تعبيرها عن أفكار وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية تتسم بالجدة، أو تمثيلها لمصالح قوى اجتماعية في الأرياف أو المدن المريفة. نستطيع القول أيضاً، إن فشل الأحزاب السياسية عموماً، يرجع إلى أسباب أخرى، نذكر منها تمثيلاً لا حصراً:

1- ضعف الثقافة السياسية الحزبية، وغياب مدارس لبناء الكادر الحزبي وتأهيل القيادات وفق مناهج وأساليب علمية، ولنقل الخبرات السياسية المصرية والمقارنة. 2- فشل الأحزاب في التجنيد السياسي لأجيال شابة، كونه نتاجاً لغياب برامج ورؤى سياسية ملهمة، تستقطب اهتمامات وآمال الأجيال الجديدة في تغيير النظام والنخبة السياسية والسلطوية الحاكمة.

3- غياب تقاليد وآليات ديمقراطية في عملية صناعة القرارات الحزبية، على نحو عكس صورة أخرى من النظام التسلطي في قلب الأحزاب السياسية المعارضة، وفي الحزب الحاكم. 4- بروز سطوة بعض رجال المال والأعمال في بعض الأحزاب لقيامهم بتمويلها، بناءً على عقد ضمني؛ لكم التمويل، ولنا تحديد قرارات الحزب الأساسية والحق في استخدام الحزب ومواقفه في المناورة مع السلطة. 5- ضعف الميراث الحزبي وتقاليده وخبراته ودوره في التقاليد التشريعية..

 وفي إنتاج التشريعات والجدل حولها في ظل التشكيلات البرلمانية للتعددية السياسية الثانية والثالثة، وهيمنة السلطة التنفيذية وأجهزة النظام التسلطي على عملية صناعة التشريع. 6- تركز الأحزاب في مقارها، واستبدال الحركة وسط الجماهير بالحضور الإعلامي في الصحف محدودة التوزيع...

 ففي أعقاب 25 يناير 2011، أصبح الإعلام الخاص أداة في أيدي رجال الأعمال للدفاع عن مصالحهم وسعيهم للعب دور سياسي.

7- غياب تمايزات نوعية بين رؤى وبرامج الأحزاب على اختلافها، والاستثناءات محدودة داخل أحزاب اليسار، ومن ثم عدم تأثيرها في التنافس السياسي، وغلبة الخلافات والاعتبارات الشخصية وصراع المصالح بين بعض قادة الأحزاب

. 8- تشظي الكتلة الجيلية الشابة (من أبناء الطبقة الوسطى المدينية) من طلائع الانتفاضة الثورية، وتفكك أواصرهم وعدم تشكيلهم لأحزاب جديدة قوية وفاعلة، لا سيما في ظل مرحلتي الانتقال الأولى والثانية، وبروز الفجوة بينهم وبين السلطة الجديدة في مسار المرحلة الثالثة.

إن الفجوة الجيلية والسياسية التي ظهرت بين النخبة السياسية الحاكمة في أعقاب 30 يونيو، أثرت سلباً في إمكان عودة الحياة إلى السياسة مجدداً، لا سيما في ظل هجوم أذناب نظام مبارك وبعض رجال الأعمال وأجهزة الدولة، على العملية الثورية في 25 يناير 2011 ورموزها الشابة، وهو ما سيؤثر بشكل خطر في السياسة والحياة الحزبية، ويزيدها ضعفاً على ضعف.
 

Email