ما بعد الحداثة وأزمة الظاهرة الحزبية (1/2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

الظاهرة الحزبية في عالمنا تواجه عديد من التغيرات، منذ ظهور أزمة المحكومية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وتمدد الفجوات بين المواطنين في أوروبا الغربية، والأحزاب السياسية اليمنية واليسارية والوسطية، وتراجع اهتمامات قطاعات أساسية عن المشاركة في الأنشطة الحزبية.

وذلك لصالح الاهتمامات النوعية للأفراد ونزوعهم إلي التركيز علي هذه الأنشطة في المجالات التي يميلون إليها، ومن ثم التشظي إلي مجموعات صغيرة ونوعية، وساعد علي ذلك التحولات في الحداثة نحو الانتقال إلي الحداثة العليا أو الفائقة بتعبير هابرماس، أو إلي المجتمعات ما بعد الحديثة، وفق ليوتار.

وأكد علي هذا التوجه تراجع، وانكسار السرديات الكبرى- الإيديولوجيات والأنساق الكبرى - لصالح نمط من الإيديولوجيا الناعمة التي تتمثل في منظومة حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة، وأنساقها المتعددة التي تناسلت من الجيل الأول، حول الحريات الدينية والحقوق الثقافية والاجتماعية والمواطنة والأقليات والمجموعات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية والجنوسية/ الجندرية.. الخ.

من ناحية أخري تقارب في الرؤي والأفكار والبرامج السياسية للأحزاب أياً كانت المرجعيات الفلسفية والإيديولوجية التي تأسست عليها.

ساعد علي هذا التحول في الظاهرة الحزبية، نشأة مجتمع الاستعراض – بتعبير ﭼـي ديبور- وبروز تمثيلات اجتماعية وسياسية مرتبطة بالاستهلاك المفرط علي نحو أدي إلي تراجع ما هو حقيقي لصالح ما هو استعراضي، وشكل هذا التغير النوعي في طبيعة المجتمعات الرأسمالية الغربية، إلي ظواهر التشظي والمحاكاة الساخرة، علي نحو ما كرسه انكسار الإمبراطورية الفلسفية الماركسية ومعها تفكك الكتلة السوفيتية ومعها الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وسقوط حائط برلين، وتوحد ألمانيا، وبعدها التحول في هذه الدول إلي اقتصاديات السوق والليبرالية الغربية، وإعادة صياغة الجغرافيا السياسية لأوروبا الشرقية، وما شهدته بعدئذ من "ثورات" برتقالية ومخملية.

لا شك أن هذه التغيرات حملت في قلبها أزمات المعني – كما سبق أن كتبنا آنذاك- والوجود والكينونة، للفرد وبعض المجموعات الاجتماعية مما أدي إلي دفقة دماء عارمة إلي قلب الروابط والمعاني المرتبطة بالأصول العرقية والدينية والمذهبية والمناطقية علي نحو نسبي.

لا شك أن هذه المتغيرات ساعدت علي حدوث بعض الانكسارات في بعض المفاهيم المركزية حول الأمة والقومية، وهي التي تأسست عليها الدولة القومية الحديثة، في إطار تطور الرأسمالية الغربية.

أن المفاهيم والهويات المتخيلة الكبرى التي بنيت عليها وحولها المجتمعات الحديثة، ومفاهيم السيادة والحدود انكسرت بعض معالمها وقوادمها، ومن ثم برزت أزمات وإشكاليات الهوية، والانتقال من السرديات القومية إلي هويات فرعية دينية ومذهبية وعرقية ومناطقية ونمط من القبائل الإيديولوجية علي بعض من نثارات ورماد السرديات المؤسسة للاندماجات القومية والاجتماعية حول الدولة القومية.

لا شك أن هذه التحولات نحو المابعديات، - ما بعد القومية، والحداثة، والثورة الصناعية الثالثة، وظهور الثورات الاتصالية والمعلوماتية، والرقمية، أدت إلي ثورات ناعمة في الأنساق الكبرى والهندسات السياسية والاجتماعية والقانونية، ومفاهيم السيادة علي نحو نستطيع أن نلحظ معه تغيرات تتم في تسارع وتلاحق مكثف ونوعي، في ظل العولمة وعملياتها وصيروراتها، والهدم والبناء الجديد لعالم مختلف.

تطورت الظاهرة الحزبية العتيقة في الدول والمجتمعات السياسية الغربية وتشكلت معالمها في ظل تطور الدولة القومية التي تأسست في إطارها الثقافة السياسية الليبرالية وقيمها وأقانيمها الرئيسة، ومعها الظاهرة الحزبية وأفكارها الكبري، وبرامجها الاجتماعية والسياسية.

لعبت الأحزاب السياسية عديد الوظائف وعلي رأسها تجميع المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية لقوي وشرائح اجتماعية، والتعبير والدفاع عنها في إطار التنافس السياسي والصراع الاجتماعي، من خلال تمثيل هذه المصالح في البرلمانات، وفي الإسهام في إنتاج التشريعات، والسياسات الاجتماعية لدولة الرفاهة، وتطورت هذه الوظائف في ظل تطور الرأسمالية الغربية، وساعد علي ذلك التراكمات الرأسمالية، والثورات التكنولوجية وتسارعها.

منذ التحول إلي الشرط ما بعد الحديث والعولمة، تأثرت الظاهرة الحزبية في المجتمعات الأكثر تطوراً، سواء علي صعيد تجميع المصالح أو التعبير عنها، أو التعبئة والحشد السياسي.

يعود هذا التغير إلي بروز المجال العام الافتراضي والثورة الرقمية، ومن ثم تأثير هذه الفضاءات الجديدة التي لا حدود للحريات فيها علي الظواهر السياسية عموماً والحزبية خصوصاً. هذا المجال العام الافتراضي تشكلت في نطاقاته الواسعة، مجموعات جديدة علي مواقعة تلعب أدواراً ووظائف سياسية واجتماعية وثقافية ومهنية ودينية عديدة، يمكن لنا رصد بعضها تمثيلاً لا حصراً فيما يلي:

1- انفجار المواقع الافتراضية – من المدونات إلي مواقع التواصل الاجتماعي الأخري تويتر، وفيس بوك وغيرها- حول عديد القضايا والاهتمامات والمصالح المعبر عنها في هذه المواقع علي تعددها وتنوع أفكارها ووظائفها.

2- تعبير مواقع التواصل عن المصالح والدفاع عنها أيا كانت نوعيتها ومجالاتها.

3- أداء وظائف الأحزاب السياسية في التعبئة والحشد وممارسة الضغوط السياسية، وفي التأثير علي بعض قطاعات الرأي العام الافتراضي والواقعي.

4- الجدل والتفاعل السياسي بين المجال العام الافتراضي والواقعي.

5- ظهور مجالات عامة كونية وإقليمية ووطنية وسقوط الحواجز والحدود بين الدول والمجتمعات والأفراد، وبدء تشكل المواطن الكوني، من خلال الثورة الرقمية فائقة التطور الاتصالي والمعلوماتي ووسائطهم المتعددة.

التغيرات الجديدة والنوعية أثرت علي الظاهرة الحزبية التي تواجه تحديات نوعية كبري، وحاولت الأحزاب السياسية الاستجابة لها، ومواكبتها إلا أنها تواجه تغير نوعي، ومن ثم يرتبط تطورها بكيفية مواجهة النخب السياسية الغربية، لطبيعة هذه التطورات الهيكلية التي ستعتري النظم السياسية الغربية، والثقافة السياسية، والأحزاب التي لا تزال هي الوعاء الرسمي لتجميع المصالح السياسية والتعبير عنها وتمثيلها من خلال منظومة التنافس السياسي بين القوي الاجتماعية والسياسية.

والمأزق الراهن يتمثل في تشكل أوعية ومنظومات للتعبير عن المصالح من خلال المجال العام الافتراضي، ومواقع التفاعل داخله، وفي بروز المنظمات الطوعية علي المستويات القومية والإقليمية والكونية ومنافسة هذه المنظومات للأحزاب السياسية.

أن بشائر التحول في الهندسات السياسية والقانونية والاجتماعية، تبدو ملامحها في التشكل بينما هندسات الدولة القومية، والمفاهيم المتخيلة الكبري حولها كالأمة والقومية تتراجع، وتنكسر، وهنا تتجلي أحد الإشكاليات الكبري التي تواجه عصرنا ومجتمعاتنا وأنظمتنا والنخب السياسية في شمال العالم.

والسؤال ما أثر ذلك علي موروث أزمات الظاهرة السياسية والحزبية في مصر والعالم العربي؟

وهو ما سوف نتناوله في المقال التالي.
 

Email