الناقد والداعية الإيديولوجي والناشط المضطرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

 

 

إن متابعة عملية تشكيل المثقف الحديث منذ بناء الدولة المصرية، تشير إلى أن مشكلاته التكوينية تاريخية ومستمرة، وتختلف من مرحلة لأخرى في التطور السياسي والاجتماعي المصري، ومن ثم نحن أمام ما يمكن أن يطلق عليه مسألة المثقف. في هذا الإطار يتم تداول عديد من التعميمات والأحكام المبسطة..

وتتمثل في إسناد غالب مشكلات المثقف والجماعات الثقافية، إلى السلطة السياسية التسلطية في أعقاب ثورة يوليو 1952، أو إلى السلطة الدينية التابعة لها، والقيود التي تفرضها على أدوار وإنتاج المثقف وإبداعاته المعرفية والفكرية والسردية والفنية.

إن محاولة فرض هندسة معيارية لما ينبغي أن يكون عليه الإنتاج المعرفي والإبداعي، مؤثرة وخطرة في إطار منظومة من المحرمات الدينية والأخلاقية، أو توظيف الأعراف والتقاليد المحافظة والثنائيات الضدية، في ضبط الإبداع وقمعه في بعض الأحيان.

إن سياسة الهيمنة السلطوية على المثقف والحقل/ المجال الثقافي، هي جزء من سياسة التعبئة السياسية والحشد وراء السلطة الحاكمة في عديد العقود. وأحد دوافع السعي إلى إلحاق المثقف بالسلطة وأجهزتها، يعود إلى أزمات الشرعية السياسية..

ودور المثقف في النقد وإثارة هذا الموضوع المفصلي ومخاطره على الحريات العامة وحقوق الإنسان كافة. ولا شك أن معتقلات الأفكار والإبداعات السياسية والدينية، أحد أكبر مكونات مسألة المثقف والسلطة والإبداع والتغيير الاجتماعي والثقافي في مصر.

وهذا لا يعني تجاوز المشكلات التكوينية للمثقف، والتي تعيق تحرره الفكري وأدواته في مقاربة الظواهر والأحداث والأزمات، وتوليد الرؤى والنظرات إزاء الذات والعالم والتاريخ والدولة والمجتمع والفرد. من هنا يبدو لي أن ثمة عديد المكونات لمسألة المثقف المصري عموماً، نشير إليها في ما يلى:

1- بداية نحن إزاء جماعات ثقافية تنقسم إلى عديد من أشباه المدارس والتيارات الفكرية والفلسفية والإبداعية، ومن ثم شكل الانقسام بين الجماعة الثقافية الحديثة، والجماعة الدينية، أحد أبرز ملامح الصراعات الفكرية والسياسية.

وإذا ركزنا على ميلاد المثقف الحامل لمشروع حداثي على الصعد الثقافية والمعرفية والقيمية – والداعي والمساند لنمط الحياة الحديث وما بعده - سنجد أن هذا المثقف هو ابن المدرسة المدنية والجامعات وحركة البعثات إلى أوروبا ثم إلى الولايات المتحدة، منذ محمد علي وإسماعيل باشا.

فالمثقف المصري الحديث يعد حالة خاصة عربياً، لأنه شارك يداً بيد وفكرة بأخرى، وحركة وعملا وجهدا ضاريا، مع النخبة السياسية الحاكمة منذ بناء الدولة، وفي إنتاج المعرفة والإبداعات التي تمت استعارة فنونها وأجناسها من الثقافة الأوروبية.

من هنا بدا دور المثقف المصري كأحد بناة الدولة، وليس خادما لديها أو تابعاً لها. هذا الدور حاولت سلطة يوليو 1952 – في مراحلها المتعاقبة - أن تحوله إلى دور التابع والمنشد والداعية السياسي لأيديولوجيتها التسلطية، مع اختلاف شعاراتها من ناصر إلى السادات إلى مبارك وما بعد.

2- ساعدت البيئة السياسية شبه الليبرالية، والمجتمع شبه المفتوح والتفاعلات الكوزموبوليتانية - حول القاهرة والإسكندرية ومدن أخرى - إلى تداخل الثقافي والسياسي الحداثي، ومن ثم تشكل حماية نسبية للمغامرة والمغايرة الفكرية والإبداعية والبحثية.

وأدت النزعة القومية المصرية إلى بروز المدرسة المصرية في التصوير والنحت والكتابة عن الشخصية القومية المصرية، ثم في مشاركة المدرسة السريالية المصرية في الإنتاج الفكري والإبداعي في إطار السريالية الأوروبية والعالمية، وهي المدرسة الوحيدة في تاريخ الثقافة المصرية التي كان لها دور عالمي..

ولم تكن محض مستوردة للأفكار والأخيلة والإبداعات، وبعدها لم يحدث أي دور للمثقف المصري على المستوى العالمي، إلا من خلال المثلث الذهبي المكون من أنور عبد الملك، وسمير أمين، وإيهاب حسن أحد منظري ما بعد الحداثة العظام، وحول ذلك خرجنا إلى حد ما من زمن العالم الحداثي وما بعده..

ولم يتبق سوى أصداء خافتة، وقلة قليلة جداً تحاول ما أمكن الوصال مع عصرها وأفكاره ومتغيراته العاصفة.3- بعض مثقفي المرحلة شبه الليبرالية تحولوا إلى موقع رجل الدولة والسياسي، من محمد حسين هيكل وعبد الرزاق السنهوري ومصطفي عبد الرازق وطه حسين.

ومن ثم ظل نموذج الانتقال من موقع المثقف النقدي إلى رجل الدولة، مسيطراً على إدراك بعضهم، والمرجح أنه سيستمر، وهو ما أدى إلى خلط في الأدوار والتصورات والحضور، وإلى تحولات من موقع المثقف ومكانته، إلى خبير السلطة، إلى الانتهازي المداهن، إلى سوقية مداح السلطة البليد.

4- في مرحلة الحراك السياسي منذ 2004 حتى الهبة الثورية في 25 يناير 2011 وما بعد، ظهر دور الناشط السياسي والحقوقي الذي نازع المثقف حضوره، ودفع بعض المثقفين للارتحال إلى موقع الناشط ليكون جزءاً من المشهد السياسي المتلفز، والأخطر أن بعضهم تحولوا إلى «سنيدة» مؤيدين ومدافعين عن الناشط، بالحق حيناً وبالباطل أحياناً..

وعن بعض جموح ونزق وأخطاء بعض النشطاء. وهذا التغير كرس ابتعاد بعضهم عن أداء أدواره النقدية ومعالجاته العميقة في مقاربة الظواهر وتفكيكها وتفسيرها وتحليلها، وتقديم الرؤى المغايرة التي تفتح الأبواب لمسارات في التفكير والنظر والعمل.

5- بعض المثقفين ارتحل إلى الواقع الافتراضي والمجال العام الافتراضي، سعيا وراء حرية بلا ضفاف، وبعضهم ذهب إليه كنوافذ للنشر والظهور الافتراضي، من خلال خطاب التغريدات المبسط، والذي يتشكل بعضه من لغة عارية من ضوابطها أو أخلاقياتها، أو أدب الحوار أو السجال، من خلال العبارات الساخرة المحمولة على البذاءة أو المسبات الجنسية.

وخطاب التغريد على هذا النحو لا يؤدي إلى معالجات في العمق، ولا نقد تركيبي لموضوعاته، وهذا أدى إلى احتلال ذهنية بعض المثقفين، وكرس انصرافهم عن أدوارهم النقدية والإبداعية.

ومن ثم تكريس انتقالهم إلى دور الناشط السياسي الذي ولد من أعطاف انتقال بعض أعضاء المنظمات اليسارية السرية إلى العلانية، من خلال العمل في المنظمات الحقوقية وشبكاتها الوطنية والإقليمية والدولية، كداعمين ومدافعين عنهم وعن أنشطتهم وممولين لها.

إن نظرة على الفترة ما بين ظهور حركة كفاية، وبقية الجماعات الاحتجاجية الأخرى، وحتى 25 يناير وما بعده، تشير إلى الخلط بين خطاب وأدوار المثقف في الفكر الماركسي، وبين الداعية والمبشر الإيديولوجي، وبعض تنظيرات غرامشي عن المثقف العضوي على نحو يفتقر إلى الدقة النظرية، وبين الناشط السياسي/ الحقوقي.

ولا شك أن هذه السيولة والاضطراب في حقل المثقف، مع تراجع المستويات التكوينية للغالبية، أدى إلى تجاوز الواقع الموضوعي لتصورات وفهم وتحليل بعضهم وخبراته ومعرفته بالتغيرات في التركيبة الاجتماعية والجيلية..

ومن ثم كشفت المراحل الانتقالية عن فشل عديدين ممن يطلق عليهم خطأ «المثقفين/ النشطاء»، سواء في إدارة الحوار من أجل التوافق الوطني، أو في المواقع التي شغلها بعضهم في التشكيلات الوزارية، أو في المساهمة في وضع التعديلات والوثائق الدستورية في 2012.

2014. هناك فشل ذريع عندما شكلوا أحزابا هشة وضعيفة ومحدودة العضوية، بلا قواعد اجتماعية. والأخطر أن بعضهم ساهم وشارك في ظاهرة الضوضاء التلفازية، وثرثرتها ولغوها وضعف مستويات خطاباتها، على نحو جعل بعضهم، ومعهم غالب خبراء السلطة والبيروقراطية وسواهم، يشكلون موضوعاً ساخراً على ألسنة المشاهدين والجمهور والمغردين في الفضاء الافتراضي، وتلك ذروة تشويه بعضهم لأدوار ومواقع ومكانة المثقف المصري..

 

Email