جيل متمرد وروح ثائرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سادت ظاهرة الشيخوخة السياسية والجيلية وتمددت طيلة أكثر من أربعة عقود، دخلت الدولة والنظام في دوائر مغلقة ومعتمة، حيث بدأت الشروخ البنائية تظهر في معنى ومفهوم الدولة التي تقلصت واختزلت في النظام الذي تمثل في رئيس الجمهورية وحاشية حوله عند القمة وحول أسرته، ومعهم رجال المال والأعمال وعديد المغامرين.

معنى الدولة تجسد في الأجهزة القمعية أساساً، ومعها الأجهزة الأيديولوجية التي انحسرت عنها التقاليد والمعايير المهنية لصالح شبكات الفساد، وحراس للبوابات دورهم الحيلولة دون وصول الآراء الحرة والكتابات الجادة إلى القارئ، أو ظهور بعضهم أمام شاشات التلفاز وقنواته الرسمية. تحولت أجهزة الدولة إلى سوق مفتوح للرشوة والاختلاس وأشكال الفساد الهيكلي، ولبعض قادة البيروقراطية المصرية المترهلة، وتمدد رأسياً من قمة النظام إلى وسطه وقاعدته، ولم يتداخل في هذه الدوائر إلا من رحم ربي، وعصمته وازعات من الضمير الوطني أو الالتزام الأخلاقي.

وفي ظل بيئة مترعة بالفساد وعدم الكفاءة، وتراجع قانون الدولة لصالح قانون القوة والنفوذ والمكانة والرشوة، تشكلت مواقع وبؤر للقوة والنفوذ، وشبكات للمصالح تنتهز الفرص والمغانم وتنتهك المال العام بلا روادع.

دوائر سلطوية شبه مغلقة، ونخبة اعترتها الشيخوخة في الأعمار، والأفكار، والخبرات، وغامت الرؤى بينما العالم والأقاليم الفرعية تتغير بسرعات غير مألوفة في تاريخ عصرنا، حيث ثورة المعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة، وتحول العالم من قرية كونية، إلى غرفة كونية، إلى جهاز اتصالي ومعلوماتي ورقمي كوني (الهاتف المحمول)، وإلى عالم واقتصادات رقمية، ومن ثم تشكلت مع هذه التغيرات العاصفة والزلزالية الناعمة، عقليات رقمية ولغة مختلفة، ومنطق مغاير، وحساسية سياسية جديدة، وخيال وثاب ويقظ ومتطلع لآفاق للتطور بلا حدود.

بدأت منذ سقوط حائط برلين، تتخلق في التركيبة المصرية بؤر جيلية من جيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات - ولغة مغايرة، وأفكار طليقة، ونزعة للهدم الخلاق لقيم متكلسة، وأخلاقيات مؤسسة على النفاق والكذب والمخاتلة والمراوغة والأقنعة والمسوح الدينية الشكلية والطقوسية، التي لا تأبه بحرية الاختيار والمشيئة والإرادة الحرة المسؤولة.

ومن صلب التآكل البنيوي للدولة والنظام التسلطي والنخبة الرسمية والمعارضة الشائخة، بدأت خطابات نقدية جديدة تشكلت معالمها منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي.

وتجلت ملامح هذا التغير الجيلي في بعض الكتابات النقدية الرصينة، المستمدة من توظيف ودمج للنظريات والرؤى والمفاهيم الجديدة في العلوم السياسية، وفي ثورة الألسنيات وتداخلها في جميع فروع المعرفة.

تبنى جيل جديد حركة حقوق الإنسان واللغة الجديدة الحاملة لمفاهيم مغايرة عن مطلق الإنسان في علاقته بهذه الحقوق، وأعاد لمفهوم المواطنة قيمته، وتابع بعمق أجيال حقوق المواطنة التي تتسع وتتطور مع عالم جديد يبزغ من خلاله مفهوم مستقبلي عن المواطن الكوني. جيل دفع الثمن من خلال السعي الدؤوب لمواجهة وتحطيم سياسة قتل الأجنة الموهوبة، والحجز عند المنابع، والحيلولة دون أن يسهم هذا الخطاب النقدي الجديد في زلزلة أسس الدولة التسلطية ونظامها القمعي، وتجديد الفكر الديني ومؤسساته التي اعتراها الوهن.

وقام بعض المفكرين الجدد بالتفكيك النقدي والمعرفي لبنى الرؤى القديمة والمتقادمة، والمفاهيم والأفكار والمواريث السياسية والثقافية العتيقة، التي تكبل الأمة والدولة وغالب جموع المصريين، وتحول دون ميلاد الفرد الحر ذي المشيئة والإرادة الفاعلة والمسؤولة، في المبادرة والفكر والعمل والسلوك الاجتماعي والسياسي.

والكتابة الجديدة التي طاردتها الرقابات السياسية والأمنtية وأجهزة الدولة القمعية والأيديولوجية، لم تقتصر على الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني النقدي، وإنما امتدت إلى أجيال جديدة تمردت على القوالب والأنماط اللغوية والكتابية في السرديات الشعرية النثرية والروائية والقصصية، وعلى البلاغة والمجازات والعوالم التي هيمنت على الأجناس الأدبية.

وكسرت هذا النمط من التجنيس النقدي، وتولد من بين حنايا هذه الحركة الجديدة، نمط من الكتابة المفتوحة ومقاربات إبداعية مشهدية شغوفة بالجسد المؤثم في المعتقلات الذهنية والتعبيرية المهيمنة، والتركيز على اليومي والجزئي والتفصيلي، حول تفاصيل التفاصيل لحركة وتفكير وشعور وحواس الإنسان. نزعة تحاول أن تولد رؤى سردية حول الإنسان/ الفرد وهمومه وهواجسه وخوفه وشهواته المجهضة.

حاول بعضهم، وهم قلة من أجيال سابقة، أن يلتقط هذا التغير النوعي في اللغة والحساسية والمقاربة والبلاغة الجديدة الوحشية، والإدراك المختلف للذات وللآخر وللعالم. إنها ذائقة مغايرة ومختلفة، لواقع وإنسان مصري متشظٍّ بين عديد العوالم والعصور والأفكار والرغبات المنقسمة بين المكبوتات والقمع، وبين الجموح الرغائبي الهادر في العوالم النفسية لشخص يحاول أن يتحرر، ليغدو فرداً طليقاً خارج أسوار سجون الروح والفكر والإرادة والفعل.

في ظل هذه البيئة الكتابية الفردية، برزت وتحددت معالم عالم مصري متخم بالقيود والحواجز، إزاء أجيال جديدة تسعى لتحطيم أسوار سجون الذات والعمل والفكر والأسرة، و»الطبقة الاجتماعية«، والتعليم الرديء، والسلع الثقافية البائرة. من هنا بدأت تتبلور فجوات الأجيال والأفكار والرؤى في دولة تتآكل مفاصلها، ونخب شائخة، وأفكار وعقول أعدت لأزمنة ماضية.

Email