لماذا ذهل العالم من صور مكة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن منظراً طبيعياً هذا الذي أذهل وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية في منظر ملايين البشر برداء أبيض موحد، وعلى صعيد واحد، وبهدف واحد.. هذه الصورة التي طيرتها وكالات الأنباء لهذه الجموع الحاشدة على صعيد عرفات في يوم عرفة. ملايين يمشون بسلام وبروحانية، في منظر لفت انتباه الكثيرين. ففي الوقت الذي يعج فيه العالم الاسلامي بالحروب الطائفية والمذهبية، تنطلق رسالة من مكة أن الإسلام دين سلام ومحبة وتآخٍ ورحمة.

كنا في جريدة عرب نيوز نضع الصور التي نلتقطها من مكة المكرمة فنجد التفاعل الهائل، سواء من وكالات الأنباء أو من الجمهور على شبكات التواصل الاجتماعي والموقع. فهناك شغف حقيقي لرؤية صورة حقيقية لهذا التجمع ولفلسفة هذا التجمع.

كانت الصورة في الصحفة الأولى لجنود أمن سعوديين يحملون امرأة في كرسيها المتحرك عند رمي الجمرات، هي الصورة الأكثر تفاعلاً. فمناظر العسكر بعد الأحداث الاخيرة في المنطقة، ارتبطت لدى الغرب بمناظر القتل والدمار والتفجير، بينما كانت الصورة هناك لتفاعل إنساني صادق غير مبرمج. الصورة قضيتها ليست في محتواها فقط، لكن في الرسالة التي جعلت العالم يرى شيئاً مختلفاً ولكنه حقيقي.

جموع الملايين في لباس الإحرام الأبيض تجمعوا من كل بقاع الأرض، ابتعدوا عن مشاكلهم وتصنيفاتهم وجنسياتهم، وجاءوا في مشهد عظيم يطلبون المغفرة والرحمة والثواب.. جموع من كل المذاهب والطوائف، ولكن روحانية المناسبة تجاوزت هذه الفروقات، فالرسالة أعمق والمكان مقدس.. فيما الأخبار تنقل قتل داعش لرهينة بشكل همجي بشع، وتحت شعارات الدين وترديد كلمات التكبير. يصاب المتابعون بالحيرة، أي إسلام هذا الذي يقتل الرهائن ويزهق الأرواح دون ذنب، ويزايد في شعاراته على الدين!

العالم يرقب ما يحدث في سوريا والتصفيات الدموية لألوف المدنيين وتهجير الملايين، ويتابع المعارك الدموية في العراق، ويفاجأ بما يحدث في اليمن وانقلاب المعادلة في لحظات.. وهناك ليبيا وهي تعيش على شفا حرب أهلية تحت شعارات دينية. صورة مشوشة ومسيئة للدين، والغريب أن معظم الحروب التي تحدث في المنطقة هي باسم الدين، والدين منها براء.

هذا المنظر لهذه الجموع كان أقوى رد على من يتهم الاسلام بالعنف والتشدد، وهي فرصة لكشف التباين بين ما ينقل في الإعلام وبين الواقع الحقيقي للدين. فمن يحاول أن يختطف الدين تحت شعارات زائفة، يرى الرد العملي في صعيد مكة، صورة الاسلام المسالم الصادق.

في ظل الدمار والصراخ الطائفي، تأتي صورة الحج لتعزز الرسالة الحقيقية لمعاني ومقاصد الدين الاسلامي. وتقدم السعودية التي وظفت كل إمكاناتها وأبناءها لخدمة حجاج بيت الله الحرام، صورة راقية للترابط الاسلامي. فالسعودية التي أقامت مشاريع بمئات المليارات لتوسعة الحرمين وبناء البنية الأساسية لاستيعاب الملايين من زوار الأماكن المقدسة، وهي استثمارات ضخمة بكل المقاييس، وتعد أكبر مشاريع إنشائية عالمياً. لم تعملها لعائد اقتصادي، بل هو التزام ديني تاريخي ومستمر.

وكانت وكالات أجنبية ذكرت مخاوف من انتشار الأوبئة، خاصة إيبولا وكورونا، وحذرت من أن تجمع هذه الحشود سيكون خطراً يهدد بانتشار الأوبئة عالمياً. وهي القضية التي تصدى لها السعوديون باقتدار، وكشفت التقارير نجاح الحج دون أمراض وبائية. إنها رسالة بأن السعودية انشغلت بمهام لخدمة الدين ومساعدة المسلمين، وهذه أبلغ صورة للتكافل والترابط الاسلامي. هذه الصور التي تقول للعالم الخارجي إن الصراعات الموجودة في العالم الاسلامي هي سياسية وليست دينية، وإن استخدام الدين هو وسيلة للوصول إلى غايات وأهداف بعيدة عن الدين تماماً. والدليل تجمع الملايين بسلام ولهدف ديني بحت، ولم تكن هناك أي مشاكل أمنية أو صراعات داخلية بين الحجاج.

هذه الصورة هي التي يفترض في الإعلام أن يقدمها، فهناك معانٍ ضمنية في هذه الشعيرة، تعكس الأخوة والوحدة الاسلامية، رغم اختلاف الجنسيات واللغات، فكلهم بلباس واحد خلف إمام واحد ويستقبلون قبلة واحدة. ورغم أننا نرى هذا المنظر بهيبة وروحانية، إلا أنه للمراقبين في الخارج صدمة وحيرة، فكيف يتقاتل هؤلاء باسم الدين بينما هذه الجموع المسلمة تتجمع في صعيد واحد وبحب وسلام! فالخطورة الحاصلة في العالم الاسلامي هي الحروب باسم الدين والتفرق في الدين، وقد قال الله سبحانه وتعالى ((ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)).

وقد جسد مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، الواقع بوضوح في خطبته التي ألقاها في عرفة »ابتلينا بأمة سفكوا الدماء وقتلوا النفس المعصومة، وقدموا بها تمثيلاً سيئاً لا يمثل إسلاماً.. هؤلاء أعظم شأناً من الخوارج، هؤلاء إجراميون انتهكوا الأعراض وسفكوا الدماء ونهبوا الأموال وباعوا الحرائر، ولا خير فيهم«. وهذه هي الرسالة التي ننتظر من علماء المسلمين أن يوضحوها.

وقد كان محقاً صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في مقالته عن الإرهاب، التي أشار فيها إلى أن »العالم فشل في مواجهة الفكر الخبيث، وأن التحدي أكبر بكثير مما نتوقع، لأن هذا الفكر أصبح أكثر تشدداً وأكثر وحشية وأوسع انتشاراً من النسخة السابقة له«. وهذه حقيقة، فإذا كان بعض شبابنا يتم التغرير بهم تحت هذه الشعارات البراقة، فكيف بمجتمعات غير مسلمة ترى كل يوم في الإعلام صور الذبح والقتل والتعذيب، وتحت رايات الدين!

إن مسؤولية توضيح الحقائق ليست فقط مسؤولية جهة واحدة، بل هي مسؤولية كل فرد ومسؤول وعالم دين، كل في مكانه. التحديات التي تمر بها المنطقة كبيرة، والارتقاء إلى مستوى هذه التحديات خيار مصيري لا يقبل التردد أو التأجيل.

Email