الصين والتمسك بمقولات دينغ الإصلاحية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الفترة ما بين 20-22 أغسطس المنصرم، احتفلت الصين بمرور مئة وعشرة أعوام على ولادة الزعيم دينغ شياو بينغ، فامتلأت الصحافة ووسائل الإعلام الصينية بمقالات ثقافية وسياسية واقتصادية، تذكر بأهمية المقولات النظرية التي تـركها هذا المصلح، الذي كان له دور بارز في تغيير صورة الصين على المستويين الإقليمي والدولي.

ولد دينغ في 22 أغسطس 1904، وبعد دراسته الابتدائية سافر إلى فرنسا قبل أن يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وانضم إلى رابطة الشباب الشيوعيين الصينيين في أوروبا عام 1921. غادر باريس عام 1926 إلى الاتحاد السوفييتي، حيث تعرف إلى الماركسية في التطبيق العملي، ثم عاد إلى الصين ليحارب ضد حزب الكومنتانغ منذ 1929

. فعمل على بناء الأطر التنظيمية للحزب الشيوعي الصيني، وساهم في قيادة فصائل عسكرية من الجيش الأحمر حتى قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949.

وتولى مهامَ سياسية في مناطق عدة قبل أن يستقر في العاصمة بكين عام 1952، وتقلد وظائف كبيرة منها نائب رئيس مجلس الدولة، ووزير المالية، والأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، ثم عضو في مكتبه السياسي. وبعد إطلاق الزعيم ماو تسي تونغ لثورته الثقافية عام 1966، اتهم دينغ بتبني مقولات الرأسمالية، وفرضت عليه الإقامة الجبرية حتى وفاة ماو في سبتمبر 1976.

وفي عام 1978 تقلد منصب رئيس اللجنة العسكرية المركزية، ثم منصب نائب رئيس مجلس الدولة، فحقق الاقتصاد الصيني تحت إشرافه معدلات نمو متزايدة. وتوفي في 19 فبراير 1997، عن عمر 93 عاماً، بعد أن قدم إنجازات سياسية واقتصادية كبيرة أوصلت الصين إلى مرتبة رفيعة في الاقتصاد العالمي.

تمحورت مقولاته النظرية حول عناوين أبرزها: إصلاح الداخل والانفتاح على الخارج، واعتماد التنمية الاقتصادية المستدامة لمحاربة الفقر والأمية والانغلاق، والاستفادة من التكنولوجيا المتطورة لدى الغرب لتوطينها ثم الإبداع فيها، وتقديم رؤية جديدة للاشتراكية بصفتها نظرية علمية لتنمية الإنتاج وقوى الإنتاج، وإصلاح نظم الإدارة الاقتصادية، وبناء اقتصاد السوق الاشتراكي بخصائص صينية، وبناء دولة صينية واحدة بنظامين...

وكان من نتائج تلك السياسة زيادة الإقبال على العمل وتضخيم حجم الإنتاج، فتطورت أوضاع الفلاحين، وزاد الاستهلاك اليومي، واستحدثت فرص كبيرة للعمل والإنتاج والتسويق. وتبنى دينغ سياسات مدينية لزيادة فرص العمل للخريجين الشباب، وحث الشباب على مزاولة الأعمال الحرة الصغيرة، وشجع إنتاج واستهلاك السلع ذات الجودة العالية، وعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية، مع الدعوة إلى خفض إنتاج الأسلحة غير الاستراتيجية.

وساهم في إعداد سياسة جديدة لتنظيم الأسرة الصينية، للحد من زيادة عدد السكان. وشجع الشباب على الدراسة في الخارج، للتعرف على أوجه الحداثة في الدول المتطورة.

وساهمت مقولاته العقلانية المعروفة بإقامة دولة واحدة بنظامين اشتراكي ورأسمالي، في إعادة هونغ كونغ إلى الوطن الأم عام 1997، وماكاو عام 1999، وارتبط اسمه بسياسة الإصلاح والانفتاح التي ما زالت مستمرة بقوة منذ العام 1978.

وغالباً ما تعود القيادة الصينية إلى إرثه الثقافي، حين تواجه بعض الصعوبات في تطبيق الإصلاح والانفتاح، والاهتداء بمقولاته النظرية لمحاربة الفساد الذي بلغ حد الخطورة في المرحلة الراهنة.

مقولات دينغ الإصلاحية أحدثت تبدلات جذرية في بنية النظام السياسي والاقتصادي في الصين، مما دفع الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ إلى الإعلان في حفل تكريم دينغ هذا العام، عن التزام القيادة الصينية الحالية بإرث هذا المصلح الكبير، الذي أطلق نهضة الصين المعاصرة ونقلها من دولة نامية تعاني مشكلات حادة في مجال التنمية المستدامة، إلى دولة غنية تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي وتنافس بقوة على المرتبة الأولى.

وكررت القيادة الصينية الراهنة التزامها الثابت بتطبيق الاشتراكية بخصائص صينية، وبالطريق المستقل للصين، واعتبرت أن أهم إرث سياسي ونظري لرائد الإصلاح دينغ، هو الاشتراكية بخصائص صينية، لأنها تتلاءم مع واقع الصين وتساهم في تنفيذ احتياجاتها بأشكال متنوعة ومتطورة باستمرار.

ويحتل موضوع الإصلاح اليوم مكان الصدارة في الأجندة السياسية للقيادة الصينية الجديدة منذ اواخر 2012، وقد تبلورت مشاريع عدة لإصلاح النظام المالي، والديمغرافيا السكانية، والنظام القضائي، والتعليم، وتعديل القوانين الخاصة بالشركات المملوكة من الدولة، وغيرها.

وحين تواجه الصين مشكلات جديدة غير مسبوقة في تاريخها، تستلهم قيادتها المواقف الشجاعة لدينغ في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الجريئة، والتحلي بروح المسؤولية لاختبار مقولات جديدة تساعد على حل مشكلات الصين في عصر العولمة.

لكنها تدرك ضرورة تطوير إرث دينغ الإصلاحي، عن طريق البحث الدائم عن خطط جديدة لتنمية الاقتصاد الصيني، والعمل على تجديد شباب الصين وضمان رفاهية شعبها.

وتواجه عملية الإصلاح في الصين تحديات مختلفة جدا عن تلك التي واجهتها في بداية عملية الانفتاح والإصلاح عام 1978، فهي تحتل المرتبة الاقتصادية الثانية في عالم منقسم، تتنازعه حروب واضطرابات دموية مدمرة، وتحكمه مصالح أنانية متناقضة.

وما زالت الصين تعتبر نفسها دولة نامية كبيرة، وتختبر طرقاً متعددة من الإصلاح والانفتاح، بحثاً عن حداثة سليمة تقود إلى التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، مع تجنب السقوط في دائرة التغريب والتبعية للخارج.

وذلك يتطلب المزيد من الحكمة الصينية في رسم استراتيجية سليمة تتلاءم مع تحديات العولمة، والتحلي بشجاعة المصلح الكبير دينغ في استكشاف آفاق جديدة للإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد.

 

Email