اللّكمات المتقاطعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا، ليست خطأ مطبعياً.. نعم اللكمات وليس الكلمات. هذا يعكس واقع الحال العربي الذي لم يعد أحد يعرف من أين تبدأ القضية وكيف تنتهي، ووقوفك في أي خانة كيف يفسر من الجانب الآخر

. فمبدأ عدو عدوي صديقي، ضاع بين خارطة أعداء اليوم وأصدقاء الأمس، وأصبح العالم يراقب هذه المنطقة الغريبة، التي تعجز تفسيرات السياسية والفكر المكيافيلي عن تحليلها، واصبحت قضايا المنطقة هي الشغل الشاغل للمنظمات الدولية والأمم المتحدة، فما أن تهدأ مشكلة حتى تلد عشرات المشاكل.

عالم غريب متداخل، ومن الصعب التنبؤ بما يحدث في اليوم الثاني، وليس المستقبل البعيد. والموقف السياسي فيه سائل، لأنه من الصعب الوقوف على خارطة سياسية ثابتة، حتى يمكنك تحديد المواقف.

فإذا كنت دعمت جبهة النصرة فأنت في صف داعش غريم النصرة، وإذا أيدت الجيش الحر فلا تعرف خصمك هل هو داعش والنصرة أم النظام السوري، واذا ناصرت السنة في العراق، فهل تؤيد داعش ضمناً، التي خصمها النظام في العراق، ولكن إذا أيدت الاكراد في العراق.

فأين موقفك من الحكومة العراقية التي تقف ضد استقلال الاكراد، وإذا عارضت النظام فهل سيتم تصنيفك مؤيدا للسنة في العراق! ولكن ايران تراجعت عن دعم المالكي رجل الطائفية في العراق، ففي أي خندق إذاً تقف إيران؟ تداخل عجيب يحتاج الى برامج كمبيوتر متقدمة، حتى تستوعب هذا التداخل السباغيتي العجيب.

ولا يقف التداخل في هذا الجزء من العالم العربي، بل حتى لو ذهبت غربا قليلا فستجد ما يسمى «الربيع العربي» في خريف دائم. ففي ليبيا لا تعرف من مع من، ولا تدري اي برلمان يدير، وأي حكومة هناك. وما أن تحفظ اسم رئيس حتى تسمع أنه هرب للنجاة بنفسه، او ضرب في مكتبه، او اختطف من منزله.

خريطة التناقضات هناك واسعة، فاذا كنت ضد التشدد المصراتي هناك (نسبة الى ميلشيات مصراتة)، فستصنف فورا أنك مع الطرف الزنتاني (نسبة الى ميليشيات الزنتان)، واذا طالبت بدعم الحكومة الشرعية، يسألونك أي شرعية تقصد؟ فهناك حكومات وميليشيات وبرلمانات، ولا تعرف في هذا الزخم أين ذهب الشعب.

وينطبق الحال على خارطة متناقضة لعالم عربي مشوه، ينحدر مؤشره البياني إلى ملامسة القاع. والتناقض لا يقف عند هذه الأعراض، بل حتى في الحلول، فهناك من يحمل المسؤولية لأميركا وتراجعها الناتج عن سياسات اوباما الضعيفة والمترددة، ويطالب اميركا بالتدخل المباشر

. وتجد نفس المتحدث في مكان آخر يقول إن التدخل الاميركي هو سبب مشاكلنا في المنطقة، وأن على اميركا ان تتوقف عن دورها كشرطي العالم. وفي عالمنا العربي هناك ثقب في الذاكرة بحجم ثقب الأوزون، فالجمهور سيصفق في الحالتين.

والغريب ان في كل اجتماعات المسؤولين العرب تتكرر جملة «في هذه الظروف الاستثنائية الحرجة»، وكأننا شعوب لم يكتمل نموها! فحياة الفرد كلها استثناء، فالسؤال استثناء من ماذا، لأن المستثنى أصبح هو الدائم.

ويتساءل مراقبون في مراكز ابحاث ودراسات في العالم، عن السؤال الصعب لماذا هذا حال العالم العربي الذي كان يوما مركز اشعاع حضاري وثقافي عالمي في تاريخه السابق؟ ولماذا تراجعت معدلات النمو والاقتصاد وزادت البطالة والفساد والفقر؟

التنمية الشاملة هي مربط الفرس في قياس تطور الشعوب، فالدول التي خرجت مهزومة من الحرب العالمية الثانية، هي التي تقود اقتصاد العالم. فألمانيا تتزعم أوروبا اقتصاديا، واليابان هي المنافس الاقتصادي المقلق لأميركا. أما في العالم العربي فإن فشل التنمية أوجد الارضية المناسبة لصعود الطائفية والاقليمية والمناطقية.

فكلما تطورت الشعوب تقلصت هذه العوامل التي هي الوصفة المناسبة لسقوط الدولة نفسها وتفتتها، وظهر مصطلح الدولة الفاشلة ويبدو أن دولا عربية تمشي الى هذا المصير بخطى متسارعة، بينما في الشعوب المتقدمة تكون الاولويات مركزة على التنمية والتعليم والقيم الانسانية. هذا المشهد العجيب من التدهور والتداخل المتناقض، هو نتيجة وليس سببا.

فالحلول التي تلجأ إليها الانظمة كمن يصب الزيت على النار، سواء في استخدام الدين لغايات سياسية، أو سياسة فرق تسد، كلها في النهاية تنقلب على من صنعها، أو كما يقولون «ينقلب السحر على الساحر». يعيش المواطن العربي أزمة قلق على قوتِه وأسرته ومستقبله، ويحقن يوميا بالأخبار السلبية التي تزعزع ثقته في مصيره ومصير أبنائه.

ومن المحزن أن يصبح حلم الانسان العربي هو فيزا تدخله الى دولة متقدمة، يعيش فيها ولو بالحد الأدنى من مقومات الحياة. والتحدي هو في تغيير أولويات الحكومات، وجعل التنمية هي المقياس الحقيقي لأدائها.

 فالحكم الرشيد هو الذي يعمل لبناء تنمية حقيقية ومستدامة، وبنية اقتصادية وتعليمية متينة، وترسيخ نظام المؤسسات الذي يقوم على الفصل بين السلطات، وتعزيز حقوق الانسان. هذه جميعها هي التي تكوّن المناعة التي تحمي الشعوب، وتصنع مستقبلاً آمناً ومضموناً، وتعطي الاستمرارية والشرعية للنظام والدولة.

 

Email