الديمقراطية الأميركية المريضة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد سئم الأميركيون السياسة، حيث سجلت نسبة الموافقة على أداء الكونغرس معدلاً متدنياً يقتصر على 13% فقط من الأميركيين، كما أن التصنيفات المؤيدة للرئيس الأميركي باراك أوباما تعتبر كذلك في الحضيض.

والأمر ببساطة هو أن معظم الأميركيين يشعرون بالعجز، ويفترضون أن قواعد اللعبة السياسية ثابتة لا تتبدل، فلماذا عساهم يأبهون؟ وتعمل إحدى الدراسات الجديدة المقرر نشرها من قبل مارتن جيلينز من جامعة برينستون وبنجامين بايج من جامعة نورثوسترن، على تأكيد أسوأ مخاوفنا.

يعمد الباحثان في هذه الدراسة إلى تحليل 1799 قضية سياسية بالتفصيل، وتحديد تأثيراتها على النخب الاقتصادية، ومجموعات الأعمال، ومجموعات المصالح المرتكزة على نظام كبير، والمواطنين العاديين.

ويختتم المحللان دراستهما بالقول: "يبدو أن أولويات المواطن الأميركي العادي ليس لها سوى تأثير هزيل، يكاد يكون معدوماً لا أهمية له، وفق الإحصاءات، على السياسة العامة للبلاد".

على العكس من ذلك، يلبّي المشرعون المطالب السياسية للأفراد الأثرياء ومصالح الشركات، أي الجهات التي تبرع في ممارسة الضغط وتملك ما يكفي لتمويل الحملات الانتخابية.

وتعود المعلومات التي أتى بها جيلينز وبايج من العام 1981 وحتى العام 2002، وهي الفترة التي تسبق قيام المحكمة العليا بفتح الأبواب أمام المبالغ الطائلة الآتية من قانون "المواطنين المتحدين"، وقبل العمل بقوانين "سوبر باك" للإنفاق المستقل، وقبل إصدار ضمانات "وول ستريت". لذا من المرجح أن تكون الأمور قد ازدادت سوءاً اليوم.

لكن هل للمواطن العادي أي سلطة تذكر؟ يشير الصحافي البارز والمعلق والتر ليبمان، في كتابه الصادر عام 1922 بعنوان "الرأي العام"، إلى أن عامة الشعب لا تعرف ولا تهتم بالسياسة العامة للبلاد. لقد تمت "فبركة" تأييدها على يد نخبة عملت على التلاعب بها، "ما عاد يمكن أن نؤمن بالمبدأ الأصلي للديمقراطية".

ومع ذلك، تبدو الديمقراطية الأميركية متينة بالمقارنة مع الدول الأخرى التي خضعت للأنظمة الشيوعية أو التوتاليتارية. لقد خرج علماء السياسة عقب الحرب العالمية الثانية بفرضية تفيد أنه رغم قلة تعداد الأصوات الأميركية، فإن معظم المصوتين ينتمون إلى مجموعات مصالح متعددة، ويشكلون أعضاءً في مختلف المنظمات والأندية والجمعيات والأحزاب السياسية والنقابات، التي حصدت استجابة السياسيين.

وعمدت "تعددية مجموعة المصالح"، كما تمت تسميتها، إلى قيادة آراء الأفراد من المواطنين، وتسيير عجلة الديمقراطية الأميركية. كما أن القوة السياسية للمؤسسات الكبرى و"وول ستريت" قد أطلقت قوة النقابات العمالية، وجمعيات التعاونيات الزراعية وتجار التجزئة والمصارف الصغرى.

ووصف العالم الاقتصادي جون كينيث غالبريث الأمر بـ"السلطة الموازية"، وهي مراكز قوى بديلة ضمنت حصول الطبقة المتوسطة الكبرى والفئات العاملة في أميركا، على حصة من الأرباح الناجمة عن النمو الاقتصادي.

وبدءاً من عام 1980 حصل تغيير في العمق بحيث ما عاد الأمر، وفقاً لما يوثقه جيلينز وبايج، مقتصراً على الإمكانية السياسية المتزايدة للمؤسسات الكبرى والأفراد الأثرياء، إذ بات يتعلق بظهور علامات الضعف على مجموعات المصالح الأخرى، وأخذت عضوية المنظمات الأهلية تتقلص بسبب ضيق وقت الأميركيين، وشهدت الأجور ركوداً، بحيث اضطرت الأغلبية إلى تكريس المزيد من الوقت للعمل وسدّ الرمق.

وتراجعت عضوية النقابات إثر قيام المؤسسات بنقل الوظائف إلى خارج البلاد ومجابهة محاولات التوحد ضمن نقابات، أما مراكز أخرى من القوى الموازية، بما فيها باعة التجزئة، وجمعيات التعاونيات الزراعية، والمصارف المحلية والإقليمية، ففقدت موقعها كذلك لمصلحة سلاسل المتاجر الوطنية للخصومات، والأعمال الزراعية الضخمة، ووول ستريت، وما عادت الأحزاب السياسية، في هذه الأثناء، تمثل آراء غالبية أعضائها. وتحولت في ظل ارتفاع تكلفة الحملات الانتخابية من منظمات محلية وحكومية، إلى ماكينات وطنية لجمع الأموال.

دخلنا حلقة مفرغة أصبحت معها القوة السياسية أكثر تركيزاً على المصالح المالية، التي تستغل السلطة لصالحها، فتحصل على تخفيض الضرائب، وتوسيع الثغرات الضريبية لتلافيها، والاستفادة من أموال الرعاية واتفاقيات التجارة الحرة، وتفتيت شبكات الأمان الاجتماعية، وسن قوانين مناهضة لقيام النقابات، وتقليص الاستثمار العام.

وعزز اتباع هذه الخطوات تركيز المكاسب الاقتصادية في أيدي الطبقة الأغنى، واستبعاد الفئات المتبقية في أميركا، ولا عجب في أن يشعر الأميركيون بأن لا حول لهم ولا قوة.

لكن إذا تخلينا عن السياسة، فسينتهي أمرنا، فما العجز إلا نبوءة محققة لذاتها، يمثل طريق العودة الأوحد نحو ديمقراطية واقتصاد في خدمة الأغلبية العودة إلى ممارسة النشاط السياسي، والاتجاه نحو التنظيم والتأهب.

 علينا ببناء سلطة موازية جديدة، وتركز المصالح المالية على القيام بأكثر ما تبرع فيه وهو كسب المال، فيما تحتاج البقية إلى القيام بما يبرعون فيه، وهو استخدام أصواتهم وحماستهم وأوراق الاقتراع.

Email