لبنان وتداعيات المواجهة مع داعش

ت + ت - الحجم الطبيعي

مساء الثاني من أغسطس الجاري دخلت مجموعات عسكرية مشهود لها بالتنظيم وبالشراسة، في القتال، فسيطرت على عرسال، وهي منطقة لبنانية وعرة المسالك تتعدى مساحتها 45 كلم مربعاً، وذات خصوصية استراتيجية، لأنها تشكل امتداداً لمنطقة القلمون السورية، حيث تخوض معركة البقاء في مواجهة الجيش السوري وقوات »حزب الله«.

بدأت المعركة إثر توقيف الجيش اللبناني لعماد جمعة، أحد كبار المسؤولين في جماعة »النصرة«، والذي بايع مؤخراً خليفة »الدولة الإسلامية في العراق والشام« (داعش).

وعلى الفور أعطى أمير القلمون في »داعش«، أبو حسن الفلسطيني، أوامره باحتلال عرسال. فانتشر مئات المسلحين في شوارعها، وقطعوا الطرق الرئيسة التي تربطها بالجوار، وشنوا هجوماً غادراً على مراكز الجيش اللبناني في البلدة وجوارها. ليس من شك في أن تفجر الوضع الميداني في عرسال بين الجيش اللبناني ومجموعات أصولية مسلحة، كان مرتقباً منذ فترة طويلة.

فوجود مجموعات كبيرة تقدر ما بين ثلاثة إلى أربعة آلاف مقاتل، يهدد الاستقرار الداخلي، ويضع لبنان على فوهة بركان التطرف والإرهاب المتمدد من سوريا والعراق. ومنذ شهور عدة، دأبت قيادة الجيش اللبناني على دعوة القوى السياسية اللبنانية إلى تحمل مسؤولياتها تجاه ما يهدد وجود لبنان.

لكن تمدد ميليشيات تحالف »جبهة النصرة« وجماعة »داعش« وسيطرتهم السريعة على عرسال، وإقامة حواجز للتفتيش وخطف المواطنين، والانتقام من سكانها بقطع الإمدادات والمعونات عنهم، وإطلاق النار عشوائياً على كل من يحاول الخروج منها، والتهديد باستعمالهم كدروع بشرية في معركتهم المفتوحة مع الجيش اللبناني، أعطى لمعركة عرسال أبعاداً وطنية طالت سيادة لبنان وأمنه واستقراره، في ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة.

وتشير تقارير ميدانية إلى أن ميليشيات »النصرة« و»داعش« فتحت معركة عرسال رداً على العملية العسكرية الواسعة التي بدأها »حزب الله« مؤخراً في جبال القلمون، حيث أقفل عدداً كبيراً من المعابر غير الشرعية وطرق إمداد المسلحين المنتشرين في جرود عرسال، في محاولة لتشتيت قواهم وعزلهم تمهيداً لتصفيتهم بالكامل.

وقد اتخذوا من اعتقال الجيش اللبناني للإرهابي عماد جمعة، ذريعة لاحتلال عرسال. بيد أن عنصر المباغتة تحول إلى مأزق عسكري وسياسي كبير، بعد الإعلان عن شهداء الجيش اللبناني، وتحول المسلحين الأجانب إلى ميليشيات احتلال للبلدة التي احتضنتهم طويلًا، فتزايدت النقمة الشعبية عليهم بسرعة قياسية، واتخذت قيادة الجيش قراراً حازماً برفض الوساطة معهم، والعمل على حسم المعركة عسكرياً بعد استقدام تعزيزات كبيرة إلى عرسال وجوارها.

فوجئ اللبنانيون بحجم الخسائر البشرية الكبيرة للمؤسسة العسكرية بسبب عنصر المباغتة، فبلغت في اليوم الأول عشرة شهداء و25 جريحاً، بينهم أربعة ضباط و13 مفقوداً، بالإضافة إلى 22 محتجزاً في عرسال من قوى الأمن الداخلي.

وفي 5 أغسطس أعلنت قيادة الجيش أن العدد وصل إلى 16 شهيداً و85 جريحاً و22 عسكرياً مفقوداً أو محتجزاً لدى الميليشيات المسيطرة على البلدة. ودلت المعركة على أن ما تعرض له لبنان يظهر بوضوح وجود مخطط خارجي يستهدف جميع اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم واتجاهاتهم السياسية، وعليهم أن يتجاوزا خلافاتهم ويلتفوا حول جيشهم لحماية وطنهم. فمعركة عرسال ليست مجرد ردة فعل على اعتقال عماد جمعة، بل تندرج ضمن مخطط مدروس لتمدد داعش عسكرياً بهدف السيطرة على لبنان.

وباستثناء بعض الأصوات الموتورة التي دأبت على التشكيك في وطنية الجيش اللبناني، وشجعت تحركات مشبوهة لمجموعات أصولية هاجمت بعض مراكزه في طرابلس، فإن غالبية اللبنانيين أجمعت على اعتبار المعركة اعتداء صارخاً على الدولة والقوات المسلحة، وعلى جميع المواطنين اللبنانيين لأنها تهدد حياتهم وممتلكاتهم ومستقبلهم.

وظهر من خلال معركة عرسال وجود أسلحة نوعية متطورة لدى المسلحين، وخاصة الصواريخ الموجهة المضادة للدروع. واتخذت المعركة بعداً دولياً حين أصدر مجلس الأمن بياناً بإجماع أعضائه في الخامس من أغسطس، ندد فيه بهجوم جماعات إرهابية متطرفة على القوات المسلحة اللبنانية في منطقة عرسال، وأكد دعمه للقوى العسكرية اللبنانية التي تعمل على حماية أمن لبنان واستقراره، وطالب بتعزيز قدراتها اللوجستية في معركة التصدي للإرهاب الدولي.

وفي اليوم ذاته قدمت هيئة علماء المسلمين مبادرة لوقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة، يتم خلالها انسحاب المسلحين من عرسال، والإفراج عن عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي المحتجزين لديهم، وإخلاء الجرحى المدنيين، وتأمين المواد التموينية للسكان.

لكن المبادرة تتعثر بسبب انتهاك المسلحين لها، كما أن تسوية الأزمة في عرسال لن تنهي المعارك المستمرة على الحدود اللبنانية - السورية بجوارها.

وما زال مصير جنود الجيش المخطوفين مجهولًا، والمسلحون يرفضون مغادرة الأراضي اللبنانية.إن حسم معركة عرسال يستلزم معدات وآليات وتقنيات يفتقدها الجيش اللبناني حالياً، ما يستوجب الإسراع في تسليمه الأسلحة النوعية اللازمة التي طلبها من فرنسا.

بيد أن المعركة شكلت اختباراً حقيقياً لوحدة الجيش اللبناني ومناقبيته العسكرية، ولقدرته على خوض مواجهة صعبة مع التنظيمات الإرهابية وأساليبها الحديثة في القتال. وتشكل معركة عرسال تحدياً مصيرياً يتوقف على نتائجه استمرار الدولة المركزية في لبنان، وقدرتها على مواجهة تنظيمات إرهابية عابرة للحدود، وتهدد بقاء لبنان ودول أخرى في المنطقة.

لكن اللبنانيين، حكومة وجيشاً وشعباً، يرفضون قيام بؤر لمنظمات إرهابية خارجية تحمل السلاح على الأراضي اللبنانية أو تلقى بيئة حاضنة من فئات لبنانية.

وما لم تحسم المعركة بسرعة، ولصالح بناء الدولة القادرة في لبنان، فالوضع الأمني فيه على مفترق خطير جداً، ويهدد بتحويل مناطق لبنانية أخرى، وخاصة في طرابلس وعكار، إلى ساحة حرب مفتوحة على غرار ما يجري في سوريا والعراق.

Email