فضائيات الحرب في غزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قطعاً ما ترتكبه إسرائيل في غزة هو جرائم ضد الإنسانية، لو استطاع فريق قانوني عربي محترف أن يجمع ملفاتها بالصور والوثائق والأسانيد، فيمكن جرجرة بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعه ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي إلى المحكمة الدولية. ويمكن أن تلعب الفضائيات العربية دوراً خطيراً في جمع أدلة هذه القضية في تغطيات خبرية عالية الحرفية، لكن عدداً من هذه الفضائيات بدلاً من أن يوثق جرائم العدوان على الفلسطينيين، خلع ثوب الإعلام وقلب الشاشة إلى مركز لصناعة القرار العربي، أو مطبخ إعداد له، وراحت تدق طبول الحرب، وحولت برامجها إلى ساحات معارك، تحث فيها الناس على القتال، وبالمرة تشكك في كل طرف يحاول أن يُهدئ من وتيرة القتال نحو هدنة.

نسيت هذه الفضائيات أن الحرب ليست نزهة يمكن أن تقوم بها الشعوب والدول، بمجرد أن تطرأ الفكرة على بال أحد قادتها أو بدعوة من صوت مذيع تلفزيوني متشنج، يصرخ أكثر مما يتكلم وينشد الضوضاء والصخب لا التفكير والعقل، ويوجه الحوار في الاتجاهات المرسومة سلفاً، متعمداً تهميش أو إسقاط الآراء التي لا تتفق مع غرضه، ولا يعنيه أن يطول أمد العدوان ويسقط مزيد من الضحايا وترتفع الخسائر، فالدماء المسالة والبيوت المدمرة هي أدواته في دق طبول الحرب. جلست أتابع إعلان الحرب في غزة من على قناة فضائية من تلك القنوات الزاعقة، ولا يهم اسمها فقد تضاعف عددها، ولِم لا وقد صار تأجير الفضاء أرخص من تأجير الأرض! ومن حدة اللهجة والعصبية تصورت أن أصحاب هذه القناة أو القائمين عليها أو العاملين فيها، سوف يخلعون تلك الأزياء الفاخرة التي يظهرون بها على الشاشة، ويستبدلونها بملابس جنود العمليات الخاصة، ويتطوعون للقتال كأول كتيبة تتشكل من كبار المتكلمين الفضائيين، فيندفع شباب الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، ليمضوا على درب هذا الفعل النبيل المنطوي على تضحية بالنفس، وليس مجرد التضحية بالحناجر والعبارات الرنانة.

لكن خابت توقعاتي وظلوا يطلون علينا من الشاشات بملابسهم العادية، التي لا تنبئ بأي نية لخوض الحرب، وقلت: ربما أدركوا أن الحرب لها حسابات أخرى قد لا تتوافر لهم الآن، فيصححون المسار تدريجياً بأن يعودوا إلى العقل والفهم، ثم تتبعهم بقية القنوات الشاردة، ومن الطبيعي أن يتحدثوا عن خيار الحرب طريقاً لاسترداد الحقوق، حتى لو كان العرب قد انحازوا إلى خيار السلام استراتيجياً، فما أكثر الحروب التي اشتعلت من أجل السلام في تاريخ البشرية، والأمم التي لا تحارب من أجل حقوقها لا مستقبل لها، لكن في التوقيت المناسب وليس بالحفر لها والاندفاع نحوها بحسابات العدو، وأن للحرب الحديثة شروطاً وعناصر ومناخاً وعوامل داخلية وخارجية، وتلزمها تدريبات واستعدادات طويلة، وأنها لا تُخاض بانفعال وهتافات. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، بكل قوتها العسكرية والاقتصادية، بلعت إهانة إغراق اليابان لأسطولها كاملاً في بيرل هاربر في شتاء 1941، ولم تدخل الحرب العالمية الثانية فعلياً إلا في ربيع 1942، أي بعد شهور من الإعداد والتجهيز والتسليح والحشد، ولم تثرها عبارات الفخر اليابانية عن »مرمطة« كرامة أميركا في المحيط الهادئ وتقديم جنودها وجبة شهية لأسماك القرش.

وإذا كان السلام هو فرصة المواطن للمزيد من الحرية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية، فقد تضطر الأمم إلى السير في الاتجاه الآخر، ولا تسقطه أبداً من حساباتها، لأن العدو لم يسقطه من حساباته ولم تتوقف تهديداته. هكذا يتحدث العالم المتقدم عن الحرب في مراكز صناعة القرار، لكن قنوات الإثارة الفضائية لم تسترد رشدها، وأمعنت في دق طبول الحرب العشوائية وهي تدرك استحالتها الآن، وهو ما يثير الشك والريبة في نفوس المتأملين لدعواتها والطريقة التي تدعو بها، واللغة التي تخاطب بها المشاهدين. وكلما زاد غضب الشارع من صور أطفال تُقتل وأجساد تُمزق وبيوت تُهدم، ارتفعت حدة هذه الفضائيات في طلب الحرب، ولم تكن حدتها استجابة لذلك الغضب بقدر ما هي محاولة منها لنقله إلى رأس الدول العربية التي تلعب دوراً بارزاً في عملية السلام، وخاصة مصر، أي تعمل على إعادة توزيع الغضب على إسرائيل والأطراف المساندة لها، ليطال أطرافاً عربية لا تتصدى لإسرائيل بالسلاح. وبالطبع تدرك هذه الفضائيات أن دق طبول الحرب قد يستهوي البعض ويتقدم للرقص عليها، ولكن لن يتقلد أحد سيفه ورمحه ويذهب إلى ميدانها في توقيت لم يختره، وأن استمرارها في الدق هو عملية منظمة لإظهار دول الطوق المحيطة بإسرائيل، وبالأخص مصر، بعد انهيار سوريا وصعود وتيرة التوترات السياسية في بقية الدول، في حالة ضعف ورفض ومناوأة لموقف الجماهير العربية الغاضبة، ويصبح الذين لا يستجيبون لصيحات الحرب العنترية، وإسرائيل والذين يدعمون عدوانها، كلهم في سلة واحدة.

Email