في ذكرى رحيلك يا زايد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تكبّلني ذكراك العطرة حزناً على رحيلك، وتجد كلماتي نفسها عاجزة تماماً عن التعبير، فأنت أكبر من كل معاجم الكلمات.. أظل أتساءل في كل مرة أريد الكتابة فيها عنك من أين أبدأ؟ وكيف لي أن أسكت بكاء حروفي على سطور رحيلك؟

عشرة أعوام مضت على رحيلك ولم يتراجع فيها الشوق إليك في قلبي يوماً بل زاد، علّمني غيابك كيف أن الشوق الحقيقي لمن نحب لا يخمد مع مرور الأيام والسنوات، فإليك في مكانك العالي يا زايد الخير أكتب، يا سيد الصحراء وفارسها، أشعر بأن صوتي تغيّر منذ أن ناديتك النداء الأخير يوم رحلت.. زايد.. يختنق ندائي عليك في حلقي، وأشعر بحرارة الدمع في عينيّ كلما ذكرتك.. قرأت يوماً أن الراحلين يشعرون بنا فابتسمت واشتقت وبكيت، اللهم ارحم ميتاً ما زال بداخلي حياً..

عندما أكتب عنك فكأنما أكتب عن الحب الذي لا يموت أبداً، لقد قضيت طفولتي كلها وأنا أراك أبي، كنت أحلم كثيراً بك وأنا صغيرة، كنت أحلم أنني أمسك يدك الحانية، وأهرب من واقعي إلى عينيك الصافيتين فأشعر بالأمان، كنت أعدّك أبي بكل ما للكلمة من معنى، كنت أحب أن أنام لكي أحلم بك وأراك، لقد كنتَ تملأ عالمي، كل عالمي بصدق، ثم غيّبك الموت ورحلت كالأحلام، تاركاً خلفك عالمي فارغاً من دون أحلام.. لقد افتقدتك أحلامي، كنت أشعر أنك توقظ النهار في روحي.. أحنّ إليك يا أبي، فقد صدق من قال »لا شيء أوجع من الحنين«..

أتعثر بعدك في أحزاني، ذهبتَ وبقيتُ وحدي، أبحث في أشيائي القليلة عن صورك الجميلة، فأجد غرفتي قد نسيتْ زينتها، وأجدني عدت إلى وحدتي، يا فارس الصحراء التي لامس ترابها جبينك العربي عند السجود، وما زال يبحث عن خطواتك وعن عباءتك ليتسلل إليها ويعانقها بكل فخر.. عشر سنوات مضت على إغماض عينيك الأخير، عشر سنوات بهتت فيها ألوان كثيرة في حياتي، ليس حولي سوى صورتك ومسافات من الذكرى، أشعر ببرودة العمر تحاصرني، وأشعر بملوحة الغربة وأنا أكتب إليك هذه الكلمات.. يا دفتراً لأبجديتي وذاكرتي، يا من علّمتني كيف يكون العطاء وكيف يكون الوفاء، وكيف أن الأعمال الكبيرة لا تتم إلا بالصبر والعزيمة والإصرار، ما زالت نبرة صوتك في أذني تأتيني في لحظات كثيرة أتوافق فيها بيني وبين نفسي على الاعتراف بالتعب وبالهزيمة، يأتي لحظتها عاصفاً ولائماً بخفوت جبار، انهضي يا ابنتي انهضي، فأنهض بقوة كنت قد ظننت أنها تراخت، وبعزم كنت حسبته قد انهار، صوت لا ينتظر حتى أناديه، إنه يأتي فحسب، إنه صوتك يا أبي زايد.. إنه صوتك.. رحمك الله يا صاحب الابتسامة التي لا تنسى، والملامح التي لا تغيب عن الذاكرة أبداً..

لقد فقدت أموراً كثيرة بفقدك يا زايد الخير، وعزائي الوحيد أنني أرى عيالك عيال زايد بخير، ويسيرون على نهجك ويكملون ما بدأت، حفظهم الله.. ولا أملك في ذكرى رحيلك إلا أن أروي بالدعاء روحك الطاهرة: اللهم ارحم الشيخ زايد بواسع رحمتك وأدخله فسيح جناتك، واجعل قبره أجمل مسكن تغفو به عيناه، اللهم يا حنّان يا منّان، يا واسع الغفران، اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرَد، ونقّه من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهــــم بشّره بقولك: ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

Email