فهرنهايت 98.6

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي لنا الكاتب الأميركي الشهير راي برادبري في روايته 'فهرنهايت 451'، عن زمن قاسٍ يتم فيه حرق الكتب، حيث تمنع الحكومة المذكورة في الرواية وجود الكتب في جميع المنازل، وفي حال اكتشف المفتشون كتباً في بيت ما، يقومون بحرقه بكل ما فيه.

وعندما نتصفح كتب التاريخ، تستوقفنا قصص كثيرة تشبه هذه الرواية، فلمّا دخل المغول بغداد في العصر العباسي، اتجهوا إلى دار الحكمة التي كانت أكبر مكتبة ومعهد للترجمة والبحوث في ذلك الوقت، فحطّموا وحرقوا ثم قاموا برمي الكتب في نهر دجلة حتى اسودّ لونه من الحبر. وفي سنة 1492، كانت الكنائس تحارب البحوث العلمية، وفي إسبانيا الكاثوليكية، حرقت الحكومة جميع المكاتب الإسلامية التي وثقت بحوثا علمية مهمة.

وفي سنة 1946 دخل الجيش الإيراني جمهورية مهاباد، وحرقوا جميع الكتب المكتوبة باللغة الكردية، ومنعوا تعليم اللغة نفسها. وفي الحرب العالمية الثانية قام الجيش الياباني بحرق ملايين الكتب والمكاتب الصينية، وحرق الجيش الألماني في الحرب نفسها أكثر من 16 مليون كتاب عند دخوله بولندا.

ما هذه القوة الموجودة في الكتب؟ ولماذا أرهبت الجيوش وجعلتهم يخافون من مجرد صفحات مكتوبة؟

تعَلقت بالقراءة في صغري، وكبرت وكبر تقديري للصفحات المكتوبة. ترعرعت في العالم الذي خلقته ج. ك. رولنغ السحري، فلقد علمتني الشجاعة والتشويق من خلال أبطالها الذين كبرتُ معهم. ثم مشيت في أسواق أفغانستان وعشت طفولة ليلى وطارق في رواية »ألف شمس مشرقة«، وصدقت خالد حسيني عندما قال لي إننا جميعاً، عاجلاً أم آجلاً، نرجع للذين تنتمي لنا قلوبهم.

زرتُ حدائق الزيتون الفلسطينية في رواية »الصباح في جنين«، وعلمتني سوزان أبو الهوا معنى حب الوطن وقُدْسيّة الدفاع عنه. أدركت أننا لم نُنْعم بحياة مستقرة لكي نسترخي، بل لكي نتبرع بحِبرنا وأصواتنا وحُروفنا للذين هم في أمس الحاجة لنا.

جلست مع كُتب غاندي وسألته: كيف بإمكاننا أن نغير العالم؟ فقال: »لماذا نغير العالم إذا كنا نستطيع أن نغير أنفسنا؟«. سألت جبران عن طبيعة تصرفات البشر، فضحك وهو يقول: »تعلمت الصمت من الثرثار، والتساهل من المتعصِّب، واللطف من الغليظ، والأغرب من كل هذا أنني لا أعترف بجميل هؤلاء المعلِّمين«. عَلمني نزار قباني معنى الولاء، عندما خَلَدَ أعيُن زوجته بلقيس في صفحات كُتبه وأبيات شعره.

غضبت من جورج أورول عندما وصف مستقبل العالم في روايته الشهيرة »1984«، ثم أدركت أن سبب غضبي هو خوفي من تشابه عالمه بالواقع الذي نعيشه اليوم. حُرِقَت الكتب لأنها علمت الناس التفكير، ومنحتهم حريّة التعبير، وعلى الرغم من أسلحتهم ودباباتهم، كانت الجيوش وما زالت تخاف من قوة الإنسان الذي يُفكر.

قال الكاتب ب. ف سكينر: »نُدَرِس كتباً عظيمة، ولكننا ننسى تعليم الطلاب حب القراءة«. للأسف ما زلنا نواجه مشكلة عدم حب القراءة في مجتمعاتنا، فقد نلوم الأنظمة التعليمية أو حتى التربية المنزلية، لكننا في أمس الحاجة للوعي من جميع الأطراف، سواء كان من قبل الأجيال السابقة أو من الأجيال الناشئة. الكتب النافعة تعطي إجابات واضحة للإنسان، أما العظيمة منها فتمنحه أسئلة لم تخطر على باله من قبل.

علمتني الكتب التي قرأتها دروساً كثيرة، وأهم هذه الدروس هو الذي تعلمته من كتاب 'فهرنهايت 451'. فقد تحترق الكتب على درجة فهرنهايت 451، ولكن يبدو لي أنها تحترق أيضاً على درجة حرارة جسم الإنسان الذي لا يقرأ، وهي درجة فهرنهايت 98.6.. إن الإنسان الذي لا يقرأ يحرق الكتب بعدم قراءتها.

Email