الدكتور جيكل يقتل أطفال غزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كالعادة نتصور حسابات السياسة الأميركية والأوروبية غير عادلة وغير إنسانية بالمرة، في انحيازها إلى صف الآلة العسكرية الإسرائيلية وهي تستمتع بأعمال القتل والتدمير في غزة، وربما تأخذنا الدهشة إلى تساؤلات ساذجة من عينة؛ كيف يقضي العالم ليلته، وعلى الأخص هؤلاء الغربيون المتحضرون، عقب مشاهدتهم الجثث الممزقة والأطفال مسفوكي الدماء وصراخ العجائز في نشرات الأخبار المصورة؟ أين رايات حقوق الإنسان؟

وهل من حقوقه أن يُشرد ويجوع ويُشوه ويُحاصر ويُفترس؟ هذه تساؤلات رومانسية غبية، لا تبصر ما تحت جلد الحضارة الحديثة من وحشية مختزنة، تنطلق من أسرها وتعيث في الدنيا حروبا متوالية؛ حربان عالميتان، وحروب أصغر في كوريا، والصين، وكمبوديا، وشيلي، والهند، وباكستان، وفيتنام، والأرجنتين، والشرق الأوسط، وأفغانستان، والبوسنة، وليبيا.. الخ، ما يقرب من 150 حربا أُزهقت فيها أرواح نحو 170 مليون إنسان، وهو رقم يفوق قتلى كل الحروب التي أشعلها البشر قبل عام 1900.

وإذا كانت المائة سنة الأخيرة من تاريخ الإنسان هي الأكثر تقدما في العلوم والفنون، والمعرفة عموما، فهي الأكثر دموية ووحشية أيضاً، ويتشكل وجهها الحضاري على هيئة «دكتور جيكل ومستر هايد»، مزيج متكافئ من الأوتار والأنياب، النبيذ والدم، السمو والانحطاط، الملائكة والشياطين.

ولم يتصور مفكرو النهضة الحديثة هذا الوجه القبيح للحضارة التي عملوا على تأسيسها، بل إن فلاسفة القرن التاسع عشر، رسموا عالما ورديا يسوده السلام وتسيطر عليه المعرفة، وكتب «هربرت جورج ويلز» أن «التاريخ الإنساني كان سباقاً محموماً بين التعليم والنكبات، وأن المعرفة قادرة على تغيير هذا التاريخ المؤلم ودفعه نحو السلام، فالمعرفة هي الحكمة والرؤية والبصيرة والعدل».

لكن جنون الساسة لم يأتِ أبداً على هوى المفكرين، ولم تصد المعرفة جحافل الوحشية الكامنة، فالألمان الذين كانوا أفضل شعوب الأرض تعليما، هم من أوقدوا جحيم الحرب العالمية الثانية، وشاركهم اليابانيون وكانوا أكثر البشر أدبا وولعا بالفنون والآداب.

وعندما انتحر النازي أدولف هتلر ودخلت جيوش الحلفاء برلين وانهار الجيش الياباني في آسيا، وكادت أبواب الجحيم تُغلق، اندفعت الولايات المتحدة وألقت قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي، لتقدم أوراق اعتمادها الرسمية زعيما حضاريا جديدا، على أشلاء ودماء مائة ألف إنسان.

وبرهنت الكتابات التاريخية بعدها على ضعف الذرائع الأميركية، فلم يكن هناك داعٍ للسلاح النووي، فالحرب كانت حُسمت بالفعل، ولكن التشفي والانتقام والوحشية تفور تحت الجلد باستمرار.

وإذا قلبنا في تربة الحضارة الغربية الحديثة، لن تفاجئنا جماجم الضحايا العالقة بجذورها منذ عصر الاكتشافات الجغرافية وإلى الآن، فهي تشبه شجرة الموت في الأساطير القديمة، تنمو على دماء الكائنات التي تَعْلَق بها، ويبدو أن دماء شعوب المستعمرات في كل قارات الدنيا لم تُروها بعد.

ومن هنا يمكن أن نفهم سر غياب الضمير في تصريحات الرئيس باراك أوباما: «إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها»، فكيف يكون الدفاع بطائرات تغير مئات المرات يوميا على سكان عزل تسيطر عليهم جماعة تطلق على إسرائيل صواريخ أقرب إلى الألعاب النارية! وبالطبع يدرك أوباما الفارق الهائل بين آلة قتل حديثة والألعاب النارية.

عموما، الولايات المتحدة نفسها نمت وترعرعت على فكرة الاستيطان، وقتل السكان الأصليين وعزلهم في معسكرات صحراوية. وقد لا نستغرب أن ما يرتكبه الإسرائيليون من طرد الفلسطينيين وهدم منازلهم والتوسع في المستوطنات، وفرض إجراءات حصار همجية، لا يثير حنق الأميركان، والمسألة ليست انحيازا فحسب، وإنما انتماء لفكرة بُنِيَتْ عليها حضارتهم.

لكن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون يعزو هذه الدموية والوحشية الحديثة في كتابه السابع «نصر بلا حرب»، إلى سببين هما غياب الديمقراطية وضعف مهارات السياسيين في إدارة الأزمات الساخنة.

ودلل على رأيه بإحصائية فريدة، وهي أن 11% فقط من سكان الأرض في بداية القرن العشرين كانوا يعيشون في ظل نظم ديمقراطية، و20% في نظم ملكية، و69% في دول مستعمرة بلا حكم ذاتي.

المدهش أن أوضاع الحرب والسلام في العالم لم تتحسن في أوائل القرن الحادي والعشرين، رغم ارتفاع نسبة الديمقراطيات المستقرة إلى أكثر من 35%، وإن ظل 30% تحت نظم ديكتاتورية، والباقي في نظم مشوهة.

وإذا تركنا الدول وعنفها إلى مجتمعاتها، سنجد أن كثيرا من علماء الاجتماع أفرطوا في تحليل ظواهر العنف داخلها، وهو ما يشي بأن ثمة وحشية فردية لا تقل عن وحشية الحروب التي تشنها.

وقد حاول الدكتور نويرت وينر، عالم الرياضيات الأميركي، التمرد على ما سماه البربرية الحديثة، وكان تفكيره أن صناعة عالم تتدفق فيه المعلومات بين سكان المعمورة في وقت واحد وبلا حواجز، سيحد من قدرة هذا «الوحش» على الفكاك من ثياب التحضر، حتى لا ينفضح أمره على شاشات التليفزيون وشبكات المعلومات.

لكن هذا الحلم البسيط تبدد، وانقلب عصر التليفزيون والكومبيوتر والأنترنت وتبادل المعلومات فائقة السرعة، إلى عبد آخر للوحش، وها هو يقتل المدنيين العزل أطفالاً ونساء وشيوخا بذريعة ضمان الأمن، ويجد من كبار السياسيين المتحضرين قبولاً لأفعاله، وتعاد صياغة المعلومات في المجتمعات المفتوحة لصالح الوحشية.

 

كاتب مصري

Email