لبنان ومبادرة تعديل النظام السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد ثماني جلسات متتالية لم تنجح في تأمين النصاب البرلماني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، تبدو »المبادرة الإنقاذية« لرئيس تكتل التغيير والإصلاح، العماد ميشال عون، غير مفهومة بشكلها الحالي، لكنها تؤكد على ضرورة إجراء تعديل جذري في بنية النظام اللبناني. فزعيم أكبر تكتل مسيحي في لبنان، يطالب بتعديل الدستور الذي يشكل الضمانة الأساسية لبقاء رئاسة الجمهورية للموارنة في ظروف داخلية وإقليمية ملتهبة.

وتضمنت المبادرة دعوة صريحة لتعديل المادة 49 من الدستور اللبناني، التي نصت على ضرورة تأمين ثلثي أعضاء المجلس النيابي كشرط لانتخاب رئيس الجمهورية. فكيف يطلب من مجلس عجز عن انتخاب الرئيس أن يعدل الدستور لينتخب من الشعب مباشرة؟ وهذا يطرح تساؤلات منهجية عدة..

أولاً: من حيث التوقيت، طرحت مرارا فكرة انتخاب رئيس للجمهورية مباشرة من الشعب، بوصفها فكرة إصلاحية بامتياز، ولم تلق قبولا من أي تكتل سياسي فاعل. فزعماء الطوائف الذين ارتاحوا إلى مواقعهم، لا يرغبون في أي تغيير خشية الدخول في لعبة تبديل المواقع، فتنهار الصيغة على رؤوس أصحابها.

ثانيا: من حيث المضمون، فاجأ عون حلفاءه وخصومه معا. وتكمن خطورة المبادرة في الدعوة إلى إدخال تعديل جذري في بنية النظام السياسي اللبناني، وتحويله من نظام برلماني يتمتع بالحد الأدنى من الديمقراطية، إلى نظام رئاسي يعيد لرئيس الجمهورية صلاحيات كانت له قبل اتفاق الطائف، ومنها حل البرلمان، والتحكم بالسلطتين التشريعية والتنفيذية.

ثالثا: من حيث تأثيرها على النظام السياسي، سارع خصوم المبادرة إلى نعتها بالرجعية، لأنها تسعى لإعادة النظام السياسي اللبناني إلى مرحلة ما قبل الطائف، وانها تحمل في طياتها نزعة فيدرالية تقوم على دعوة كل طائفة لبنانية لانتخاب ممثليها في البرلمان، ضمن نظام طوائفي متكامل من الكانتونات الطائفية.

المبادرة ليست إنقاذية إذن، بل حاولت تحريك المياه السياسية الراكدة، بعد أن وصل نظامه السياسي الطائفي إلى طريق مسدود. وهي طائفية بامتياز، لأنها تطالب بتعديل دستوري محدود بهدف انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب وعلى دورتين: الأولى على مستوى الناخبين المسيحيين، والثانية على مستوى كل الطوائف اللبنانية، على ان تنتخب كل طائفة نوابها. وتم إطلاقها في لحظة حرجة تشهد فيها منطقة الشرق الأوسط المزيد من التطرف الديني والسياسي، وإعادة النظر في الحدود الجغرافية لدول المنطقة، وإعلان الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق، والسعي إلى فرض الدولة الكردية كأمر واقع.

توقع القيمون على المبادرة أن تلتف حولها الطوائف المسيحية أولا، لأنها تعيد للزعامة المسيحية دورها الفاعل في القرار السياسي داخل النظام الطوائفي اللبناني من جهة، وأن تلتف حولها القوى الديمقراطية والعلمانية من جميع الطوائف اللبنانية، لأنها تطمح منذ زمن بعيد إلى انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب من جهة أخرى.

بيد أن تلك القوى لم تظهر أي حماس لها، بل وجدت فيها مخاطر جمة لأنها لا تستند إلى جوامع مشتركة لحماية لبنان واللبنانيين في ظروف إقليمية بالغة الخطورة. ورأت فيها القوى السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية أنها مجرد تكتيك اعتمده الجنرال عون للوصول إلى رئاسة الجمهورية، وهي لا تندرج ضمن استراتيجية طويلة الأمد للخروج من دائرة نظام سياسي فاشل، أنجب طبقة سياسية فاسدة عاجزة عن القيام بأي مبادرة إنقاذية. ومنهم من اعتبرها تهدد وحدة المجتمع اللبناني وتنسف ركائز العيش المشترك.

هكذا بدت المبادرة على حقيقتها كتكتيك سياسي طائفي، هدفه إعادة الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية المسيحي، بعد أن أطاح بها اتفاق الطائف الذي لم تطبق غالبية بنوده الإصلاحية. فبعد أربعة وعشرين عاما على إعلانه، ما زال معظم بنود اتفاق الطائف حبرا على ورق، وكان على المسؤولين الحريصين على النظام السياسي اللبناني أن يطبقوا بنود الطائف كاملة.

بعبارة موجزة، طرحت المبادرة كرد فعل على عجز الطبقة السياسية عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية دون تدخل خارجي، وأعادت طرح المناصفة الفعلية بين المسيحيين والمسلمين، من خلال انتخاب كل طائفة لنوابها في البرلمان.

وفي هذا المجال بالذات، كان أحرى بأصحاب المبادرة الدعوة إلى تنفيذ جميع بنود الطائف، وخاصة المواد التي تؤكد على الشراكة والمناصفة والميثاقية والإنماء المتوازن، واللامركزية الإدارية وسواها، قبل إطلاق فرقعة إعلامية باسم »المبادرة الإنقاذية«..

ليس من شك في أن فكرة انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب اللبناني جديرة بالاحترام، فشعار »الشعب يريد انتخاب الرئيس« يجمع حوله تكتلا شعبيا يضم القوى غير الطائفية من جميع المناطق اللبنانية. فهي تطمح لكي تكون صاحبة القرار الأساسي في انتخاب رئيس الجمهورية، وجميع النواب من مختلف الطوائف. لذا لم يحظ الإعلان عن المبادرة في الظروف الراهنة بتوافق وطني، بل زاد من حدة الهواجس الطائفية في لبنان.

ويصعب على التيار الوطني الحر وحلفائه ضمان موافقة الحكومة على تأييدها بأغلبية ثلثي أعضائها، كما يصعب تأمين ثلثي مجلس النواب لتمرير التعديل. فولدت المبادرة مأزومة إن لم نقل ميتة، لافتقارها إلى الإجماع الوطني. ولم تشكل مدخلا لحل الازمة اللبنانية، ولا لاستقطاب القوى الديمقراطية والعلمانية حولها، لفتح حوار داخلي يفضي إلى قيام نظام سياسي جديد في لبنان.

Email