عراق ما بعد المالكي

لم يكن يحتاج العراق دخول داعش وسقوط مدنه الرئيسة، ليثبت فشل حكومة المالكي وطائفيتها المدمرة. فبعد ثماني سنوات يتضح أن وضع العراق من سيئ الى أسوأ، وأن ما تم التحذير منه داخليا وخارجيا قد وقع. والحديث عن داعش كقوة هو أمر مبالغ فيه، ففي الحقيقة ما حدث يعكس غياب سلطة الحكومة المركزية، وإحساس العشائر بالتهميش، الذي جعلهم يأخذون موقفاً ضد الحكومة.

كما أن شعور قوات الجيش بعدم الانتماء لأن النظام طائفي، جعل الطريق مفروشا أمام داعش. وإلا كيف يمكن أن ينسحب جيش مسلح بعشرات الألوف في ساعات قليلة؟ أسوأ شعور عند الناس هو الظلم، ومتى ما شعروا بأنهم مهمشون وممتهنون، تصبح الرغبة في التغيير والتمرد قوية، ويفرض نفسه في نهاية المطاف. المكابرة والعناد صفات تصيب بعض الحكام فينتهي بعضهم في خندق او عبّارة هاربا من شعبه، وقليل منهم من يتعظ ويدرك ساعة الخروج.

العراق الذي كانت امامه فرصة لصناعة نظام يشمل كل العراقيين ويتعامل معهم كمواطنين، بغض النظر عن الطائفة او المنطقة، وقع في المحظور، وتمادى النظام في استعداء نسبة كبيرة من شعبه. وكانت سياسة التهميش واضحة، وتم التحذير منها كثيرا، سواء من الداخل او الخارج، مما افقد النظام الشرعية الشعبية. العراق يملك مكونات ضخمة من تاريخ وحضارة وشعب متعلم وثروات وأنهار، تجعله مهيأ ليترجم حلم اجيال عربية.

لكن ما بني على باطل فهو باطل. فأميركا وضعت الجذور الخطأ لدولة العراق الحديثة، من خلال قراراتها الارتجالية بحل الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث، وبصورة همجية، كتطبيق مشابه للتعامل مع النازية في المانيا. ولكن هناك فروقات كبيرة بين الحالتين، فنسبة كبيرة من العراقيين ليس لهم اهتمام بالسياسة ولا يؤمنون بالفكر البعثي، ولكن الانضمام للحزب هو الخيار الذي كان متاحا وقتها في دولة بوليسية تتعامل بقسوة مع من يعارضها.

لقد اوجد الأميركيون جذور التقسيم الطائفي في العراق، وهذا الذي نتج عنه على الأرض تقسيم للسلطة على اساس طائفي. وهذا ينسف مفهوم الديمقراطية التي كانت »الكليشة« التي يرددها الأميركيون آنذاك، وان العراق سينقل عدوى الديمقراطية الى دول المنطقة.

وكانت النتيجة ما نراه من بوادر حرب أهلية، وتقسيم العراق الى ثلاث دويلات. وكان جو بادين نائب الرئيس الأميركي قد اقترح عام 2006 تقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم؛ سني وشيعي وكردي. وقال في مقال لجريدة نيويورك تايمز، ان العراق سيعيش دوامة صراع طائفي دموي اذا لم يؤخذ باقتراحه. وهو في اقتراحه هذا يلغي تداخل المكونات والمجتمعات في الدولة العراقية. والمحزن ان الحديث عن التقسيم بدأ يتكرر في الآونة الأخيرة، بعد أن كان كلمة مستهجنة وخاطئة في حق العراقيين.

ماذا سيقول التاريخ عن زعماء عرب أغرتهم السلطة ففرطوا في الأمانة؟ استلموا ادارة الحكم ودولهم موحدة ويغادرونها وهي مفتتة الى دويلات.. فهذا السودان قضم جنوبه، وليبيا تنشطر الى أجزاء، وسوريا تمشي للتقسيم.. وهذا العراق يُدفع للتفتت على أساس طائفي وعرقي. من الظلم ان يدمر شعب ودولة بالكامل لأن هناك شخصا متشبثاً بالسلطة، وقد كانت جريدة التايمز البريطانية محقة في وصف نوري المالكي بأنه مصاب بجنون العظمة، وانه شخصية معزولة ويجب ان يرحل فورا. وهذا الذي يتردد في اروقة قاعات السياسيين، الذين يتفق معظمهم ان المالكي جزء أساسي من المشكلة ولن يكون جزءا من الحل.

العراقيون مطالبون اليوم بالوحدة وتجاوز الخلافات الجانبية، والتركيز على القواسم المشتركة بدلا من ترديد وتأجيج الصراع الطائفي. داعش لم تنجح لقوتها، بل لضعف الخصم. والضعف ليس في القوة العسكرية، ولكن في روح الانتماء والحس الوطني.

التاريخ يكشف أن فتنا كثيرة ظهرت في العراق، ولكن التاريخ ايضا يبين أن الحضارات القديمة كان مهدها العراق، وأن العراقيين حين يتحدون يصنعون انجازات اكبر من حجم دولتهم.

الأزمة الأخيرة هي ايضا فرصة للعراقيين لأن يبدأوا صفحة جديدة وتاريخا جديدا يكتبه العراقيون، والعراقيون فقط. من يعيشون أسرى للتاريخ لن يتقدموا الى الأمام، والساسة العراقيون مطالبون بلحظة صدق ومرحلة نضج، فدماء العراقيين ليست رخيصة والعراق أهم من ان ينتهي الى دويلات متنازعة. يخطئ كثيرون اذا ربطوا قرارهم بعواصم أخرى لها اجنداتها الخاصة، فالعراق ليس سطرا بسيطا في أجندة الآخرين.. العراق اجندته مستقبل وتنمية وبناء الانسان العراقي، وما عدا ذلك هو اختطاف لتاريخ وحضارة وثروات بلد في وضح النهار.

الأكثر مشاركة