ماذا حلّ بالعالم.. هل أصابه الجنون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت هذا الأسبوع في برشلونة لحضور المؤتمر الإعلامي السنوي للشبكة العالمية للمحررين، وانتظرنا أن يلقي رئيس حكومة كتالونيا التي عاصمتها برشلونة، كلمة عن الإعلام، فإذا به يرحب بنا في دولة المستقبل كتالونيا، وأن الاستفتاء سيحدد مصير الاستقلال.

وبعد الافتتاح، كان الصحافيون المشاركون من إسكتلندا يتحدثون بحماس عن الاستفتاء المقرر في سبتمبر المقبل، ليختار نحو خمسة ملايين إسكتلندي مصيرهم، إما بالاستقلال عن المملكة المتحدة أو البقاء تحت مظلة الملكية. أوروبا بدت هذه المرة مشغولة بقضاياها، كيف ستكون خريطة أوروبا لو تمت الاستفتاءات بنعم للاستقلال.

أوروبا التي قدمت للعالم صورة حضارية في وحدتها المثيرة، التي جمعت أقواماً وأدياناً ولغات مختلفة، وصهرتم في كيان أوروبي واحد وعملة واحدة، تترنح تحت تأثير الدعوات الانفصالية. فالقضية لا تقف عند إقليمين، فسكان إقليم الباسك يطالبون بالاستقلال أيضاً عن إسبانيا، وشكلوا سلسلة بشرية شارك فيها نحو مئة ألف شخص، وامتدت على طول 123 كيلومتراً، بهدف المطالبة بالاستقلال، بينما ويلز في بريطانيا قد تكون الثانية بعد إسكتلندا في مطالبتها بالاستقلال.

وربما تخطو إيرلندا الشمالية نفس الخطوة وتطالب باستقلالها، وهذا يبقي بريطانيا في مساحة صغيرة في الجزء الجنوبي من الجزيرة. حتى بلجيكا، هذه الدولة الصغيرة، تواجه خطر الانقسام، خاصة بعد فوز حزب التحالف الفلمنكي الجديد الانفصالي في الانتخابات الأخيرة، وهو الأمر الذي يضع بلجيكا أمام خيارات صعبة بشأن مصيرها كدولة.

ودول الاتحاد الاوروبي تنظر بعين القلق إلى خطوة استقلال إسكتلندا، التي بقيت في اتحاد مع بريطانيا لنحو 307 سنوات، لأن هذا سيفتح باباً لانبعاث الأفكار الانفصالية ورواج الفكر القومي، لأن التشدد القومي كان أساس الحرب العالمية الثانية التي أطلقها هتلر، وتصنيفه للشعب الألماني بالدم الآري، الذي يعطيه تميزاً على بقية شعوب العالم. وما يثير الانتباه حالياً، هو تقدم الأحزاب اليمينية المناهضة للوحدة الأوروبية، في انتخابات البرلمان الأوروبي. وهذا يعطي مؤشرات على توجهات الرأي العام، وتنامي الحس القومي لبعض الشعوب الأوروبية.

ويرى البعض أن بروز النزعات الاستقلالية هو نتيجة لاحتكار الاتحاد الأوروبي لبعض مقومات الدولة السيادية، وإضعاف مفهوم الدولة القطرية في منظومة الاتحاد لصالح المجموع الأوروبي، فهذا أوجد مساحة لبروز القوميات كوسيلة للإحساس بالهوية الخاصة، ولذلك يرى علماء اجتماع أنها أزمة هوية.

وتمثل تجربة يوغسلافيا السابقة مثالاً واضحاً على النزعة القومية، التي جعلت دولة واحدة تصبح أربع دول. ولا تمثل الهوية السبب الوحيد، فالضرائب المرتفعة تجعل خيارات الاستقلال وسيلة للتهرب منها.

فهناك تقرير نشرته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، عن أن الضرائب الجديدة يمكن أن تتحول إلى ثورة قوميات. فالمقاطعات الشمالية الفرنسية، خاصة بريتانيا، بدأت تظهر فيها نزعة انفصالية، وربما تولد احتجاجات عنيفة.

إن خطورة التوجه الانفصالي في تغيير خريطة العالم، وفي بعث حروب بين اصدقاء الأمس. فمن يتابع ما يجري في أوكرانيا، يدرك خطورة تفتت الدولة، فبعد انضمام القرم إلى روسيا، تظهر دعوات قوية في دونيتسك شرقي أوكرانيا للاستقلال، والتي يرفضها البرلمان الأوكراني، وحصلت مواجهات تهدد بحمام دم، وقد تفتح حروباً أوسع.

وواقع الحال في العالم العربي أسوأ، فهناك دول فاشلة، تمثلها الصومال، وحالياً ليبيا، وهناك توجه انفصالي في السودان الدولة الأكبر مساحة في العالم العربي، حيث ذهب جنوبه وعادت الحروب مرة أخرى، وبدلاً من أن تكون أهلية أصبحت بين دولة وجارتها. واليمن يحاول أن يتماسك، بينما دعوات الجنوب للانفصال عالية. ويتردد حديث عن خطر انفصال ليبيا إلى دويلات، وسوريا تواجه احتمال التفكك إلى دويلات على أسس طائفية. وكأن كوراث العرب لا تكفي لتأتي «داعش»، وهذه المرة تتجاوز العمليات الإرهابية إلى محاولة تأسيس دولة، واحتلالها لمدن مثل الموصل، وسعيها لوضع جغرافي جديد من خلال إزالتها للنقاط الحدودية بين العراق وسوريا. نعم، هذا هو العالم العربي، حيث لا تنتهي قصة، إلا وتبدأ عشرات القصص.

الدعوات الانفصالية في الدول المتقدمة تأخذ شكلاً حضارياً، يبنى على الاستفتاء وترك الخيارات للناس لكي يحددوا مستقبلهم، ويحاول كل جانب أن يقنع الناس بخطورة أو جدوى الاستقلال. ولذلك تأتي النتائج في مصلحة شعوبها، سواء استقلت أو بقيت ضمن الدولة.

لكن خيار الشعب الذي يبنى على وضوح الصورة كاملة، تكون قراراته أقرب إلى الصحة، بينما في منطقتنا، قرارات الوحدة والاندماج تتخذ بين ليلة وضحاها، وتنقلب الوحدة بقدرة قادر إلى حرب واتهامات، وحدة تعتمد على الأشخاص وتتجاهل المؤسسات. خطورة تفكك الدولة تأتي من المناطقية أو الطائفية، فهذه تضع نواة الرغبة الانفصالية عند الناس، وتتراكم مع الوقت وتنفجر مع أي أحداث أو حروب.

الاتحاد السوفييتي بقوته وقدراته الهائلة، انهار وتفتت دولته، لأن وحدته لم تقم على الاقتناع والانتماء، بل قامت بإرهاب الناس وبفرض القوة وتمركز المصالح والثروات في روسيا، وهذا جعل انهيارها مثيراً للشفقة.

الجيوش لا تحمي الأنظمة ولا تحمي الدول، إن لم تكن مبنيه على الأسس الصحيحة والعدالة. فعشرات الألوف من قوات المالكي في الموصل، تركت أسلحتها وهربت، لأنها تفتقد الثقة في النظام، وتشعر بمرارة التفرقة والتهميش. لذلك دائماً تظل صحة وسلامة الوضع الداخلي، هي الأهم لمواجهة حروب وتحديات الخارج.

نعم، العالم أصابه الجنون بدعواته للانفصال، لكنه في الدول المتقدمة جنون التعجب، كيف يمكن لشعوب تعيش حياة رغدة ومصانة حقوقهم الإنسانية والاجتماعية أن تطالب بالانفصال؟ لهذا، فإن المعارضين للدعوات الانفصالية يصفونها بأنها تفكير مجنون، بينما جنوننا يختلف، فهو يبدأ برصاصة، وينتهي بالسؤال عن أسباب هذه الحرب.. جنوننا مختلف، أما آن لنا أن نتغير؟

Email