لبنان والصراع المفتوح داخل النظام السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بات من الواضح أن الخلاف على إقرار سلسلة الرتب والرواتب كما أنجزتها حكومة نجيب ميقاتي في 21 مارس 2013، لم يكن سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي الصراع داخل النظام السياسي الطائفي في لبنان، والذي بات عاجزا عن الاستمرارية بصيغته الراهنة.

وتنفيذ ما جاء في السلسلة لا يشكل خطراً على استقرار الليرة اللبنانية وفق تصريحات حاكم مصرف لبنان، ولا على الاقتصاد اللبناني وفق تقديرات غالبية الاقتصاديين. فعدد الموظفين المستفيدين من السلسلة يقدر بحوالي 180 ألفا، منهم 95 ألفا من القوى العسكرية، و28 ألف أستاذ في ملاك التعليم الأساسي والثانوي والمهني والتقني، و26 ألف متعاقد بالساعة، ومتعاقدون ومياومون وأجراء ومتقاعدون في مختلف مؤسسات الدولة وإداراتها الرسمية. وفي حال إعادة الحقوق لمستحقيها، فإقرار السلسلة يعيل قرابة مليون لبناني، ويضخ مبالغ مالية هامة تساعد على تنشيط حركة الاقتصاد اللبناني.

لكن الطبقة السياسية الفاسدة والمتحالفة مع بورجوازية ريعية جمعت ثرواتها الطائلة من المضاربات العقارية والصفقات المشبوهة، دون أن تلقى أي مساءلة أو محاسبة، أسفرت عن وجهها الحقيقي في جلسة إقرار السلسلة في مجالس النواب بتاريخ 9 يونيو الجاري، فطار النصاب وتأجلت إلى 19 منه. هذا التعطيل للنصاب، بات ينذر بتعطيل السلطتين التشريعية والتنفيذية معا، مما يضع النظام السياسي اللبناني في دائرة الخطر الشديد.

في الظاهر، يكمن جوهر الخلاف في إقامة التوازن بين أرقام السلسلة وكيفية تأمين الضرائب والإيرادات لتنفيذها. لكنه في حقيقته يشير إلى رفض تحميل الفقراء أعباء إضافية، بحيث يعطى أصحاب الحقوق بيد ليؤخذ منهم باليد الأخرى. وإلى جانب الحرص على التوازن بين النفقات والايرادات، لا بد من المساواة بين اللبنانيين، وضمان العمل الوظيفي، وإجراء الإصلاحات الضرورية في الجهاز الإداري، وتأكيد دور القطاع العام في تأمين الاستقرار الاجتماعي والنفسي للإداريين والموظفين.

إن جلسة التاسع من يونيو فضحت التحالف القوي بين رجال السلطة والمال، لضرب هيئة التنسيق النقابية ودفعها للصدام مع أهالي الطلاب. ويتشكل هذا التحالف من كتلة فاعلة داخل البرلمان والحكومة، لحماية الفساد الإداري والمالي، والمضاربين بالعقارات، وتغطية المصارف وشركات الأموال التي تتهرب من دفع الضرائب المتوجبة عليها.

وتتمسك قوى هذا التحالف بالمكتسبات التي حصلت عليها بطرق غير شرعية، فأعلنت وقوفها السافر ضد أصحاب الحقوق من المواطنين اللبنانيين، تحت ستار أنها تدمر الاقتصاد اللبناني وتقود إلى التضخم وإفلاس الخزينة وخراب لبنان.

ونشر بعض منظريها مقالات نارية تحذر اللبنانيين من أن إقرار السلسلة لا يشكل خطراً على النظام الاقتصادي اللبناني فحسب، بل يدمر الطبقات الشعبية نفسها، ويحرمها من حاجاتها الأساسية في السكن والعمل والعلم.

هكذا انحازت شرائح واسعة من النواب ضد مصالح الموظفين والمعلمين وأصحاب الدخل المحدود، وبرز معظمهم كمدافعين بشراسة عن مصالح رجال المال والأعمال، وعن ديمومة نظامهم الذي بات يهدد حياة الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، كما يهدد أمن واستقرار لبنان في ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة. فعمدوا إلى تعطيل التشريع في المجلس النيابي، والتهديد بتعطيل عمل الحكومة، والتلويح بالتمديد مرة أخرى للبرلمان الحالي تحت ستار عدم التوافق على قانون جديد للانتخابات في لبنان.

فقد هالهم أن يجتمع عشرات الآلاف من اللبنانيين من طوائف ومذاهب ومناطق مختلفة وراء هيئة التنسيق النقابية، مطالبين بحقوقهم المشروعة، ومتجاوزين المرجعيات الدينية والقيادات السياسية التقليدية.

لقد بات مصير اللبنانيين رهنا بإجراء تعديلات جذرية على النظام السياسي الطائفي، بعد أن تيقن الجميع أن اتفاق الطائف لم يعد مكافيا، وأن النظام القائم لم يعد قادراً على الاستمرارية دون تعديلات جذرية على مؤسساته، وعلى آليات عمل كل منها. إن مشكلات النظام السياسي اللبناني مزمنة، وأبرز تجلياتها الراهنة: ضبط الامن والاستقرار، ومراقبة الوضع الاقتصادي، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، والتوافق على قانون جديد للانتخابات. ولم تعد قوى التغيير الجذري تثق بنظام سياسي فاسد، أوصل لبنان إلى حافة الانفجار الشامل.

وبات اللبنانيون على قناعة بضرورة تماسك القوى النقابية التي أثبتت كفاءة عالية في إدارة المواجهة مع تحالف السلطة والمال، واستمالت الجماهير الشعبية والطلابية إلى جانبها، للحفاظ على الاستقرار الوظيفي في القطاع العام، والقيام بإصلاحات جذرية تجعله حقل إنتاج، وعنصر استقرار لآلاف العائلات اللبنانية.

Email