الترابط الأسري طريق المجتمع الآمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، بل هي العنوان الكاشف لحالة أفراده وطبائعهم وسلوكياتهم، فالمجتمعات مهما كان حجمها، تبدأ بالفرد الذي لا يكون له وجود إلا من خلال الأسرة، وهي الدائرة الأولى والأقرب التي يتعلم منها كيف يتعامل مع من حوله، ذلك أن سلوكيات الفرد ومفردات لغته مكتسبة في جانب كبير منها، كما أن اتجاهاته نحو القضايا التي يتعرض لها في حياته يغترف فيها من معين الأسرة، وقد يتقمص شخصية والده ويحاكيه.

خاصة في سنواته الأولى التي تدوم تجاربها طويلاً، لذا كانت سلوكيات الأبناء والقيم التي يتحلون بها، تعبيراً عن حالة الأسرة ذاتها، كما أن سيرة الأسرة التربوية وسمتها كفيلتان بمعرفة كيف تكون حالة أبنائها، باعتبار أن المحيط الأولي للفرد يترك آثاراً سلوكية ونفسية من الصعب محوها.

ومن هنا تعددت المهام المنوط بالأسرة القيام بها تجاه أفرادها، سواء في الجانب التربوي أو الاجتماعي أو الثقافي، وكما يقول الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان منّا * على ما كان عوّده أبوه وهو ما يؤكد أن قيام الأسرة بدورها تجاه أبنائها، يوفر الكثير من الجهد والوقت والمال على العديد من المؤسسات التربوية بكل أشكالها، كما أن تقاعسها عن هذا الدور يجعل من الصعب على أية مؤسسة أن تكون بديلاً عنها فيه أو تحتل مكانها، وهو ما يدل على أنها المؤسسة التربوية الأهم، وبصلاحها يصلح المجتمع، بل هي المؤسسة الأنجح قبل قيام المؤسسات كافة، وإلا فمن أين استقى القادة العظام عبر العصور الذين غيروا مسارات التاريخ قيمهم، وتعلموا كيف تكون القيادة في وقت لم يكن فيه ما نراه الآن من مؤسسات تربوية غير الأسرة؟!

على الجانب الآخر، إذا أردت أن تعرف كيف انحرف المنحرفون، وأقدم المجرمون على اقتراف جرائمهم، بل كيف ذهب قادة بشعوبهم إلى أتون الهلاك والدمار والحروب، فابحث عن نشأتهم الأولى، ستجدها افتقدت العطف أو النموذج السوي الذي يمكن التمثل به.

أقول هذا بعد أن استوقفتني مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «إن للأسرة دوراً مهماً في حياتنا»، وهي رسالة واضحة لدور الأسرة في التنشئة السليمة للأبناء، وهو ما يعني أن يقوم جناحاها وهما الأب والأم بدورهما، فالأمومة والأبوة لا توثق بشهادة ميلاد فقط، لكنها دور ورسالة يجب أن يقوم بها كل طرف، حتى يخرج للمجتمع قيمة إنسانية راشدة تجعل لحياته معنى، وكما يقول الشاعر: نِعَم الإله على العباد كثيرة * وأجلّهن نجابة الأبناء

ونجابة الأبناء لا تعني التفوق الدراسي أو إحراز قدر كبير من النبوغ العلمي، لكنها تعني رفعة الأخلاق وجميل الخصال وقويم السلوك، فعلم دون خلق يصبح وبالاً على صاحبه وعلى المجتمع. ومما لا شك فيه أن وعي الأسرة بالأسلوب الأمثل لتربية الأبناء دون إفراط أو تفريط، يسهم في توثيق النسيج الاجتماعي للمجتمع، فالتدليل المفرط للأبناء يخرج للمجتمع نمطاً من الأشخاص يميلون إلى النزعات الفردية وحب التملك، واليأس والإحباط عند أول تعثر، والهشاشة النفسية وعدم القدرة على تحمل المسؤولية أو الصبر والجلد وقوة التحمل عند مواجهة التحديات، وهؤلاء لا يعتمد عليهم ولا يعول في بناء أوطانهم، لأنهم اعتادوا على الاعتماد على غيرهم.

كما أن الإفراط في القسوة في التعامل معهم والاعتقاد أن التربية بالعنف تصنع الرجال فهم يجانبه الصواب، لأن العنف والقسوة يولدان لدى الطفل الخوف من إبداء الفكرة، فضلاً عن القيام بسلوك، وهو ما من شأنه وأد الدافعية لديه، وانطواؤه على نفسه، والعجز عن اتخاذ قرار ما، وقد يفضي في النهاية إلى انسحابه من الحياة الاجتماعية.

إن الأسرة هي مصنع الرجال، وإذا أردت أن تحكم على مستقبل أية أمة، فما عليك إلا التحقق من نهج الأسر في التعامل مع أبنائهم الذين سيكونون آباء وأمهات المستقبل.. وهكذا دواليك. لذلك من الأهمية بمكان ألا يكتفي دور الوالدين بتوفير الاحتياجات المادية لأبنائهم، معتقدين أن هذا هو غاية المنى ومنتهى الأمل، لكن يجب أن يكون هناك حوار دائم ولقاءات ثابتة مهما كانت شواغلنا، فضلاً عن توسيع نطاق القاسم المشترك بين الآباء وأبنائهم، مثل صداقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركتهم بعض الاهتمام أو التظاهر بذلك، لفتح مجال أكبر للاقتراب من أفكارهم، فهم ولدوا لزمان غير زماننا.

إن قيم حب الوطن والتضحية من أجله والانتماء والولاء له، والبذل بالجهد والمال في سبيل رفعته والدفاع عنه ضد ما يهدده أو ينال من أبنائه، لا يمكن أن يدركها، فضلاً عن تعلمها، الفرد الذي يعيش في أسرة مفككة، ولا أعني بذلك حدوث انفصال بين الوالدين، ولكن قد يجتمع أفراد الأسرة تحت سقف واحد بأجسادهم وتتباعد أفكارهم، وقد تصل إلى حد الصدام، وهو ما يشير إلى أهمية دور الأسرة في غرس القيم التي تحظى بالرضى العام والاتفاق المجتمعي، بحيث يكون من شذ عنها شذ عن العقد الاجتماعي، والتراضي العام الذي يتم عبر الحوار والتوجيه الاجتماعي والتواصل بين الأجيال الذي حافظ على قيم المجتمع وتوازنه مع الانفتاح على الثقافات كافة، استناداً إلى واقع ثقافي واجتماعي متين.

من هنا تجيء المقولة الكاشفة «إن الرجال لا يولدون، بل يصنعون»، تعبيراً صادقاً عن دور الأسرة المحوري في صناعة مجتمع آمن بمعناه الشامل والواسع الذي يعني أنه آمن في فكره وثقافته، وآمن على حاضره ومستقبل أبنائه، وآمن على مكتسباته وإنجازاته.

إن بناء الرجال قرين بناء الأوطان، لأنهم المدافعون عن الوطن والحامون له، لذلك في تقديري أن الترابط الأسري من القضايا المتعلقة بأمن الوطن الذي يبدأ من الأسرة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يتنازل الأبوان عن هذا الدور ليقوم به غيرهما، لأن كل رجل عظيم محقق لذاته ونافع لمجتمعه، هو ابن لأسرة مترابطة، لذلك أعود وأكرر أن الترابط الأسري هو الطريق إلى مجتمع آمن.

Email