مايا أنجيلو.. وليدة المعاناة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحلت عن عالمنا الأسبوع الماضي الشاعرة الأميركية السوداء مايا أنجيلو، عن عمر يناهز الرابعة والثمانين.

والشاعرة الكبيرة كانت في الوقت ذاته أديبة وممثلة وراقصة ومخرجة، اكتسبت شهرتها من كتابة مذكراتها في ستة مجلدات كاملة. وتلك المجلدات جسدت حكاية المرأة السوداء في أميركا ومعاناتها، عبر مراحل مختلفة منذ الكساد في ثلاثينيات القرن العشرين، مروراً بالفصل العنصري والاضطهاد، ثم حركة الحقوق المدنية، ووصولاً لتولي أوباما السلطة. وأنجيلو بالمناسبة هي التي ألقت الشعر في حفل تنصيب بيل كلينتون رئيساً عام 1993، وهي التي منحها أوباما أعلى وسام مدني في أميركا.

وقد ولدت مايا أنجيلو في عام 1928، باسم مارغريت جونسون. أما مايا فهو الاسم الذي كان يطلقه عليها أخوها منذ الصغر، وقد اتخذت لنفسها اسم أنجيلو، الذي هو تحريف لاسم أحد أزواجها الذي كان يدعى أنجيلوس.

وقد ولدت مايا في سانت لويس في ولاية ميزوري، ولكنها أُلقيت وهي في الرابعة من عمرها في قطار مع أخيها ذي الثلاث سنوات في طريقهما وحدهما إلى جدتهما لأبيهما، وفي رسغ كل منهما ورقة مكتوب عليها «لمن يهمه الأمر، هذان الطفلان في طريقهما لجدتهما في مدينة ستابمس بولاية أركنسا». فالأب بعد أن وجد استحالة لاستمرار زواجه بالأم، شحن الطفلين لأمه.

وعاش الطفلان مع جدتهما في الجنوب الأميركي، الذي كان يموج في ذلك الوقت بأعتى العنصرية إذلالاً وقهراً للسود. واعتاد الطفلان على زيارة أمهما في سانت لويس، وفي إحدى الزيارات، اغتصب صديق الأم الطفلة مايا وهي في سن السابعة.

لكن الطفلة أسرت لأخيها، فافتضح الأمر وحوكم الرجل وكان على وشك أن تنفذ عليه العقوبة، لولا أنه قتل في حادث. فتصورت الطفلة أن صوتها هو الذي قتله، فالتزمت الصمت خمسة أعوام كاملة، وارتبطت بالقراءة والكتابة.

وقد غيرت تلك المحنة حياة مايا أنجيلو تماماً، فهي من ناحية ارتبطت بالقلم والورقة باقى حياتها. ولكنها من ناحية أخرى، وكما يقول علماء النفس، فإن الطفلة تعرضت لما تتعرض له كل طفلة تتعرض للاغتصاب في تلك المرحلة المبكرة.

ولست متخصصة في النفس البشرية، لكن في حدود ما قرأت في ذلك العلم، بدت ملامح واضحة في حياة أنجيلو، لكن الأهم أنها كانت من الشجاعة بحيث لم تخجل من روايتها حتى يتعلم من التجربة غيرها. فصورة أنجيلو عن نفسها مثلاً وعن جسدها لم تكن جيدة، فهي وصفت نفسها في مذكراتها بأنها «تلك الفتاة السوداء الضخمة للغاية، ذات القدم العريضة والمسافة بين الأسنان التي تمرر قلم رصاص».

وحياتها ظلت لفترة طويلة في حالة فوضى وعدم اتزان، وهو ما عبرت عنه أيضاً في مذكراتها قائلة «لم أكن أعرف ماذا سأفعل بحياتي، ولكنني وجدت براءتي ولن أضيعها مرة أخرى»، وظلت في ما بعد تتنقل من وظيفة لأخرى ومن زوج لآخر، حتى إنها رزقت بطفل دون زواج وهي في سن المراهقة. وظلت حياتها غير مستقرة، ولم تبدأ الكتابة إلا وهي في سن الأربعين، وبعد إلحاح الكثيرين، ومنهم رموز معروفة في حركة الحقوق المدنية، اكتشفوا موهبتها وقدراتها وهي تعمل معهم.

وكان إسهام أنجيلو الحقيقي في حركة الحقوق المدنية، من خلال فنها. فهي كانت ضمن الفنانين السود الأكثر نجاحاً في إقامة الحفلات الفنية، لجمع الأموال لمنظمة مارتن لوثر كنغ الرئيسة «مؤتمر قيادات الجنوب المسيحية»، حتى إن مدير فرع المنظمة في نيويورك طالبها بأن تحل محله، ففعلت، وصارت واحدة من الدائرة الضيقة التي تدير المنظمة برئاسة مارتن لوثر كينغ نفسه.

وفي 1964، تزوجت من جنوب أفريقي من مناهضي الأبارتيد، وانتقلت معه إلى القاهرة، حيث عملت مسؤولة التحرير في مجلة «آراب أوزبرفر»، ثم انتقلت إلى غانا وعملت في جامعة أكرا، وظلت هناك حتى زار الجامعة مالكولم إكس في 1965.

وانبهرت أنجيلو بما قاله عن منظمة الوحدة الأفرو أميركية التي كان ينوى إنشاءها، فقررت العودة إلى أميركا لمساعدته في إنشائها. وعادت بالفعل، لكن القدر لم يمهل مالكولم إكس الذي اغتيل بعدها بأيام.

وفي عام 1968، طلب منها مارتن لوثر كنغ مساعدته في إطلاق حملة «الفقراء»، ولكنها تلكأت لحين تحتفل بعيد ميلادها الأربعين فاغتيل كينغ، ومنذ ذلك اليوم لم تحتفل بميلادها أبداً. أما الإسهام الأدبي لأنجيلو، فكما يقول النقاد، هو جرأتها على الكتابة. فهي كتبت عما تعانيه المرأة السوداء في أميركا، وطبيعة المحن والتحديات التي تواجهها.

وصراحتها في الحديث عما تعرضت له في الجنوب أيام العنصرية، ثم الحديث عما جرى لها من أذى نفسي وبدني بعد محنة الاغتصاب، وطوال حياتها، حررت الكثير من النساء السود وأعطتهن القدرة والجرأة على تناول قضايا مماثلة تعرضن لها. لكن لعل أكثر ما تعلمته شخصياً من مايا أنجيلو، هو قدرتها على أن تكافح كل ذلك القهر والأذى بالحب.

وهي قالت في حوار أجري معها منذ حوالي عشر سنوات: «أنا جرؤت على الحب، وأقصد بالحب تلك الروح الإنسانية العميقة، التي تحفزنا على أن نكون شجعاناً، ونبني الجسور ثم نثق في تلك الجسور، ونمر فوقها في محاولة للوصول إلى بشر آخرين». مايا أنجيلو في تقديري، محقة تماماً، فرغم كل الكراهية والعنف والمحن التي واجهتها، كانت عبقريتها الحقيقية في أنها ظلت قادرة على الحب، بدلاً من أن تعيش أسيرة الكراهية والبغض.

Email