الربيع العربي الفاشل وأوهام الربيع الأمازيغي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في 29 مايو المنصرم، وبدعوة من المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، أتيحت لي فرصة سماع محاضرة الباحث الجزائري عبد الناصر الجابي بعنوان: «إشكاليات جديدة للدولة في العالم العربي.. نموذج الربيع الأمازيغي».

شكلت المعطيات العلمية الغنية التي قدمها الباحث، مناسبة هامة لمناقشة تجربة الدولة المستقلة في الجزائر، والتي بنيت على شعارات متشددة تحت ستار الوطنية، والقوموية العروبية، وموجبات الحفاظ على الوحدة المجتمعية الاندماجية، بالأمن العسكري.

وهي سمات مشابهة لبناء كثير من الدول العربية الحديثة، في مرحلة تميزت بالخلاف النظري لتوصيف الدولة العربية ما بعد الكولونيالية. فهي دولة وطنية مستقلة في نظر المثقفين المغاربة، وتم توصيفها بالدولة القطرية المصطنعة في نظر القوميين في المشرق العربي.

بدا واضحاً أن مشكلة الأمازيغ في المغرب العربي، تختلف جذرياً عن مشكلة القوميات الإثنية والطائفية والمذهبية في المشرق العربي. فالأمازيغ يشكلون قاعدة واسعة جداً، تمتد من سواحل البحر المتوسط حتى جنوب الصحراء الكبرى.

وهناك جماعات متنوعة من الأمازيغ تنتشر في المدن والأرياف والجبال والواحات، في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وفي دول إفريقية غير عربية. وشاركت الجماهير الأمازيغية إلى جانب زعمائها في جميع الحركات الاستقلالية والوطنية في المغرب الكبير، ولديهم اليوم نخب سياسية وثقافية ونقابية ومالية، داخل تلك الدول وفي الخارج الأوروبي، وخاصة فرنسا. فالأمازيغية ليست مسألة أقليات ذات جذور غير عربية، ولم تحاول جماهيرها التمايز عن باقي التجمعات السكانية. فهدفها الأساسي هو الدفاع عن حقوقها الطبيعية والمشروعة للحفاظ على لغاتها أو لهجاتها المحلية، دون أن تتخلى عن اللغة العربية.

ومع انفجار الانتفاضات الشعبية التي عمت بعض الدول العربية عام 2011، وأطلق عليها الرئيس الأميركي أوباما صفة «الربيع العربي»، تحركت مشاعر الجماعات الأمازيغية، للمطالبة بمشاركة فاعلة في تصويب مسار الدول العربية التي تضم أعداداً كبيرة من الأمازيغ. وشكلت الانتفاضات العربية الأخيرة مناسبة تاريخية للأمازيغ والأكراد، ولجماعات أخرى من أصول غير عربية تعيش في الدول العربية، لكي ترفع سقف مطالبها إلى حد المطالبة بحق تقرير المصير أو الحكم الذاتي، وصولاً إلى الاستقلال كما حصل في جنوب السودان. وطرحت النخب الثقافية فيها صيغاً جديدة لبناء الدولة العصرية الواحدة، على أساس الفيدرالية أو الكونفيدرالية.

واستمزج بعض النخب الأمازيغية رأي قادة دول غربية تحتضن تجمعات كبيرة منها، في مدى قبولها بفكرة الوحدة الأمازيغية التي تشكل حاجزاً بين أوروبا الغنية والدول الإفريقية الفقيرة. فتحمس لها بعض ساسة الاتحاد الأوروبي الذين يرفضون عروبة المغرب الكبير، ويعملون على إلغاء تراث العرب والعروبة في دوله.

ليس من شك في أن بعض الدول العربية المستقلة أساءت إلى بعض الجماعات العرقية والمذهبية فيها، واستخدمت العنف الدموي لقمع تطلعاتها المشروعة في الحفاظ على لغاتها، ولهجاتها، وتراثها الثقافي، وفنونها الشعبية.

لكن أوهام النخب لدى تلك الجماعات، في مشرق العرب ومغربهم، تصطدم في المجال السياسي بوجود الدولة الوطنية المستقلة والمعترف بها دولياً. لكنها ما زالت تعاني مشكلات الولادة التي أبقت على التبعية للغرب، بدل الانفكاك عنه ودخول مرحلة الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي.

وذلك يطرح تساؤلات منهجية حول مستقبل الدول الوطنية في زمن الانتفاضات الشعبية العربية. فهل تستطيع الدعوات الأيديولوجية المبنية على الوحدة العرقية لدى الأكراد، أو الثقافية لدى الأمازيغ، إنشاء دول مستقلة على أنقاض الدولة الوطنية المعترف بحدودها الدولية؟ لقد بشرت دراسات غربية نشرت بعد تفجر الانتفاضات الشعبية، بضرورة تقسيم الدول العربية القائمة إلى مكوناتها السابقة على قيام الدولة المستقلة.

وبدأت تجارب التقسيم مع قيام دولة جنوب السودان، وتمارس في ليبيا واليمن، وتم الترويج لتقسيم مصر وسوريا ولبنان والعراق والسعودية، وغيرها، إلى دويلات تنتسب إلى مكوناتها القبلية والطائفية، لكن تلك التجارب منيت بالفشل.

وهناك نزوع وطني كبير نحو الوحدة على أسس ديمقراطية سليمة، ورفض الوحدة الاندماجية القسرية على أسس قوموية أو إسلاموية مؤدلجة، وليس من المتوقع إعادة تقسيم الدول العربية المنتفضة.

على جانب آخر، تبدو مطالب الجماعات القومية والثقافية غير العربية، بإقامة الوحدة الاندماجية على أسس عرقية أو ثقافية، تتطلب تهديم ركائز دول قائمة في إيران وتركيا وسوريا والعراق، وتغيير حدود جميع دول المغرب الكبير.

يعيش العرب اليوم في عصر العولمة والتجمعات الجغراسية الكبيرة، لذا تبدو الدعوات الأيديولوجية لإعادة تقسيم الدول العربية المستقلة صعبة المنال. فهي تضر بمصالح العرب الأساسية، وتمهد الطريق لقيام مشروع الشرق الأوسط الكبير وتنفيذ المشروع الصهيوني بدعم أميركي وأوروبي مباشر.

وذلك يتطلب النضال المشترك لبناء الدولة العربية العصرية، وتجاوز الشعارات الدوغمائية التي تطلق من الجانبين العربي وغير العربي، والتي أبقت العروبة الحضارية هامشية في كثير من مناطق المغرب الكبير.

علماً أن العروبة الثقافية حمت نسبة كبيرة من تراث الأمازيغ، وأن النخب الثقافية الأمازيغية لعبت دوراً كبيراً في الدعوة إلى بناء دولة عصرية، على أسس ديمقراطية تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

أما فشل الربيع العربي فلا يقود بالضرورة إلى نجاح مشاريع سياسية معادية للعرب ومدعومة من الخارج، وليس بمقدور المكونات السابقة على قيام الدولة العربية المستقلة، أن تعيد رسم حدود تلك الدولة وفق تصورات أيديولوجية ضبابية، ولأغراض سياسية هدفها إخراج العرب من دائرة التفاعل الإيجابي مع متطلبات عصر العولمة، وخاصة المواطنة، والمساواة، وبناء مجتمع المعرفة.

Email