ما قبل السيسي وما بعده

ت + ت - الحجم الطبيعي

إجراء الانتخابات الرئاسية في مصر على النحو الذي وقع وبأقل مستوى من الاضطراب في الأوضاع الداخلية، يشكل مفصلاً تاريخياً في سياق تطور وضع الدولة المركزية الأكبر والأقوى بين الدول العربية، والتي تسعى لاستعادة دورها ومكانتها الإقليمية الفاعلة، بعد أن همشتها سياسات حكم مبارك الذي استمر نحو ثلاثة عقود.

هذه هي المحطة الأبرز في خارطة المستقبل، وتعبد الطريق على نحو أكيد أمام استكمال تعميق التحول نحو الانتخابات البرلمانية، بعد أن تم بنجاح الاستفتاء الشعبي على دستور لم يكن على مقياس تيار سياسي، كما كان حال الدستور الذي سبقه وكان يعكس بوضوح بصمة ورؤية جماعة الإخوان المسلمين.

من حيث المبدأ، جرت الانتخابات الرئاسية في ظل إجراءات رقابية سليمة، من قبل المجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات دولية، ولم ترق الطعون المقدمة والشكاوى التي وصلت للجهات المعنية، إلى مستوى التشكيك في نزاهتها وديمقراطيتها.

والمنافسة بين المرشحين، انطوت على جدية وتحلى كلاهما بالمسؤولية الوطنية وبأخلاقيات التنافس الشريف، بعيداً عن الاتهامات وعمليات التشويه والتشكيك. ويحسب للمرشح حمدين صباحي الذي اعترف بهزيمته في الانتخابات، رفضه الضغوط الكبيرة التي تعرض لها كي ينسحب من السباق، رغم أنه يدرك سلفاً أن منافسه عبد الفتاح السيسي، يحظى بفرص أكبر لتحقيق الفوز.

كان انسحاب صباحي سيترك ملاحظات كثيرة على سلامة العملية الانتخابية، إذ ستبدو وكأنها تكرار لعمليات الاستفتاء التي كان يلجأ إليها مبارك، لأن المرشح السيسي سيكون فائزاً بالتزكية، الأمر الذي سينعكس سلباً على المشاركة الشعبية التي يلزم لإبقائها في الميدان، فعل نشط ومتحفز لمجابهة تحديات الحكم الجديد في المرحلة المقبلة.

فاز السيسي بنسبة عالية تجاوزت 92% حسب النتائج الأولية، ما يعني أنه حصل على تفويض شعبي عارم وحاسم، وهو التفويض الشعبي الثاني بعد استجابة ملايين المصريين لدعوته للتظاهر بعد أيام قليلة من ثورة الثلاثين من يونيو العام المنصرم.

فقد حصل على ضعف عدد الذين صوتوا لمرسي في انتخابات الرئاسة السابقة، ويكاد عدد منتخبيه يناهز عدد كل الذين صوتوا في تلك الانتخابات، مما ينطوي على شكل من أشكال التفويض والتأييد للنهج الذي اختطه الرجل منذ بداية المرحلة الانتقالية.

مصر اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تختلف عما سبق، ولا تجوز مقارنتها انطلاقاً من اعتبارات تقييم توجه رئيسها الجديد، فالبعض يرى السيسي عبد الناصر القرن الحادي والعشرين، مع اختلاف الظروف المصرية والعربية والدولية، لكن بعضاً آخر من المشككين يعتبرون فوز السيسي إعادة إحياء لنظام مبارك، متجاهلين حقيقة أنه لا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، على الأقل في ما يتصل بنوع ومستوى ومدى حيوية الحراك الشعبي.

وبغض النظر عمن يتفق أو يختلف مع نهج السيسي، الذي تجنب أن يقدم برنامجاً انتخابياً خلال حملته في سباق الرئاسة، إلا أنه وضع مصر في مواجهة شاملة وتاريخية حاسمة مع مشروع وبرنامج الإسلام السياسي، الذي قدم خلال عام واحد، كل ما يؤدي إلى رحيله عن الحكم مبكراً.

وإذا كان الحديث عن مصر ودورها في تحديد خيارات المنطقة وهويات مستقبلها السياسي، فإن فشل مشروع الإسلام السياسي في مصر، قد سدد ضربة كبيرة لأصحاب هذا المشروع ومؤيديه في أكثر من بلد عربي، وفرض على هؤلاء إعادة النظر في تكتيكاتهم السياسية وفي آليات تعاملهم مع الحكم، ومع الآخرين، ولعل أبرز مثال على ذلك ما يجري في تونس وما يجري في الوضع الفلسطيني.

ما يجري في مصر، يعكس ذاته على المنطقة بأسرها، فالتحولات الجارية فيها ترافقها أو يتبعها تحولات هامة على صعيد الدول والحركات والأحزاب السياسية، ومن ذلك مثلاً، التحالف الجديد والقوي بين مصر ودول الخليج، في مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية والكويت، ومع توطيد مثل هذا التحالف، تنشأ معادلات جديدة لأمن الخليج وأمن المنطقة عموماً.

في هذه المعادلة، لن تكون دول الخليج العربي مرتهنة لقوة خارجية، في مجابهتها للتهديدات الأمنية والتحديات الاستراتيجية في المنطقة.

تشكل مصر السيسي، بداية عصر جديد لانتقال مصر الكبيرة نحو بناء مستقبلها، الذي يتأسس على استعادة الكرامة الوطنية والدور والمكانة الإقليمية، واستعادة الفعل ولعب دور أساسي في صياغة استراتيجيات ومصالح القوى الأخرى، الدولية والإقليمية، إزاء هذه المنطقة، التي تنطوي على أبعاد جيوسياسية استراتيجية، تطاول عليها الكثير من الدول الطامعة.

 وفي مثل هذا الوضع، فإن القضية الفلسطينية سيكون لها نصيب كبير وأساسي، وينطوي على تأثير جدي وحقيقي على طبيعة المخططات الإسرائيلية، التي لم تجد من يردعها، وهي تصادر كل لحظة الحقوق الفلسطينية، وترفض الاستجابة للإجماع الدولي الذي يطالبها ويسعى لتطبيق رؤية الدولتين.

مصر القوية، المستقرة، مصر العربية التي تتقدم نحو بناء نظام ديمقراطي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية، واللحاق بركب التطور، هي مصر الحامية للحقوق الفلسطينية والعربية، والدرع الحصين في مواجهة الأطماع والمخاطر التي تنطوي عليها السياسات والمخططات الاستعمارية والتهديدات الإقليمية.

 

Email