لبنان.. جمهورية الفراغ السياسي مجدداً

ت + ت - الحجم الطبيعي

مساء 25 مايو الجاري، دخل لبنان مرحلة الفراغ في رئاسة الجمهورية، لكن اللبنانيين لم يقيموا وزناً كبيراً لهذا الحدث، الذي تكرر أكثر من مرة منذ الاستقلال.

كانت وسائل الإعلام اللبنانية، على اختلاف توجهاتها السياسية، قد أكدت أن الفراغ قادم لا محالة، بسبب الخلافات المستعصية بين زعماء الطوائف، الذين يمثلون امتداداً لقوى إقليمية ودولية تريد للبنان أن يبقى ساحة لتصفية الحسابات في ما بينها.

بات المواطن اللبناني مستعداً لتقبل فكرة الفراغ في أي موقع في الدولة، فهو يعيش مرحلة الفراغ في مجلس النواب، الذي مدد لنفسه بصورة غير دستورية. وانتظر اللبنانيون تشكيل الحكومة الحالية لأكثر من عشرة أشهر، إلى حين التوافق على تقسيم مغانم الإدارة، التي تشكو فراغاً مخيفاً على كل المستويات.

اللبنانيون اليوم على قناعة تامة بأن نوابهم عاجزون عن انتخاب رئيس للجمهورية، بإرادة لبنانية، كما يدعون عبر وسائل الإعلام، وتأكد عجزهم فعلاً عن انتخاب رئيس «صنع في لبنان»، وبات واضحاً أن الفراغ أو الانتخاب لا يقرره زعماء لبنان، لأنهم على علاقة تبعية لقوى خارجية، وهاجسهم الأساسي تعزيز مواقعهم في التركيبة السياسية اللبنانية، وليس الدفاع عن لبنان، وحماية نظامه الجمهوري الديمقراطي.

ودلت تجارب سابقة، على أن رئيس الجمهورية في لبنان غالباً ما تم اختياره عبر تفاهمات إقليمية ودولية، تم تسويقها في اللحظات الأخيرة، وفرضت على سياسيين عاجزين عن انتخاب رئيس لجمهوريتهم من دون إشراك الدول الإقليمية الفاعلة وذات التأثير المباشر في السياسة اللبنانية. ومؤخراً، كان التوافق الإقليمي على اختيار رئيس جديد للبنان، رهناً بتحقيق مسألتين أساسيتين:

الأولى: أن توكل إليه إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتفجرة بسبب عجز الإدارة اللبنانية عن إيجاد حلول عقلانية لها.

الثانية: تبنيه سياسة إقليمية شعارها حياد لبنان، في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع المتفجرة في سوريا من جهة، وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد من جهة أخرى، وقد فاخرت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بسياسة «النأي بالنفس» عن المشكلات الإقليمية المتفجرة، لكنها واجهت مشكلات داخلية شديدة الانفجار، دفعت مئات الآلاف من اللبنانيين إلى الشوارع مطالبين بإنصافهم، وقد أبدوا تخوفهم من النتائج الكارثية لحجم النزوح السوري المتزايد على أرض لبنان، وبات يهدد أمنه واستقراره.

مواصفات رئيس الجمهورية ومدى تمتعه بالقاعدة الشعبية، وبالتحالفات السياسية، والكفاءة الشخصية لإدارة دفة الحكم في لبنان، لم تكن على جدول أعمال القوى الإقليمية المشاركة في اختيار الرئيس الجديد، فهي تريد رئيساً توافقياً لإدارة الأزمة، وعندما فشل التوافق على مرشح واحد من جانب القوى الإقليمية قبل نهاية الفترة الدستورية المحددة لانتخابه، دخل لبنان مرحلة قد تكون فراغاً طويلة الأمد، فمن يتحمل مسؤولية الفراغ هم النواب أولاً.

ومن جميع الكتل البرلمانية، لأنهم تمنعوا عن القيام بواجباتهم الدستورية والوطنية والأخلاقية في حضور الجلسات، وخانوا ثقة الشعب اللبناني، الذي منحهم الشرعية الدستورية للمشاركة في إدارة دفة الحكم، عبر انتخاب رئيس الجمهورية، واحترام بنود الدستور، والقيام بأعمال التشريع، والرقابة على السلطة التنفيذية، ومحاكمة كل من يتخلف عن القيام بواجباته تجاه الشعب اللبناني.

لقد فشلت الطبقة السياسية اللبنانية في إدارة العملية الانتخابية، ومارست أسلوب تعطيل جلسات الانتخاب، وفق مسرحية مملة لمن تابعها عبر وسائل الإعلام اليومية. ودخلت الآن مرحلة تلقي النصائح الخارجية حول ضرورة توافق اللبنانيين على كيفية تنظيم الفراغ بعد 25 مايو، بحيث لا يطال جميع مؤسسات الدولة، ويصيبها بالشلل الكامل.

وهناك مواقف متباينة حول تفسير الدستور لإدارة مرحلة الفراغ، فهل هذه الحكومة مؤهلة لإدارة الفراغ الرئاسي؟ وهل لديها الصلاحيات الدستورية لاتخاذ قرارات مصيرية مهمة تتطلب توقيع جميع الوزراء؟

مع العلم بأن وجود رئيس للجمهورية يتمتع بكامل صلاحياته الدستورية، يعني وجود دولة شرعية، وغيابه مؤشر على بقاء دولة شكلية ومنقوصة السيادة. وهي عرضة للطعن في ميثاقيتها، لأن أحد أبرز مكوناتها الطائفية، أي الطائفة المارونية، مغيب.

وفي ظل الفراغ الرئاسي تبرز تساؤلات دستورية وطائفية ووطنية وميثاقية، حول عمل المؤسسات اللبنانية في مرحلة قد تمتد لشهور عدة، فمجلس النواب العاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، لا يمتلك الشرعية الكافية لإدارة شؤون الدولة.

وبنود الدستور اللبناني تجعل منصب رئاسة الجمهورية أهم منصب في الدولة، لأنه المؤتمن على الدستور، وحماية النظام، والحفاظ على تماسك الدولة، وقيادة الجيش الوطني، وتمثيل لبنان في الخارج، وتقدم إليه أوراق اعتماد أعضاء السلك الدبلوماسي بصفتهم ممثلين لدولهم في لبنان، ويوقع على الاتفاقيات الدولية باسم جميع اللبنانيين، ويشارك السلطة التنفيذية في إدارة شؤون الدولة وحماية المجتمع اللبناني.

إن دولة بدون رئيس منتخب ديمقراطياً بموجب الدستور، هي دولة فاشلة فقدت شرعيتها.

 ودخول لبنان مرحلة فراغ سياسي يعرض، في حال استمراره طويلاً، المجتمع اللبناني إلى نزاعات طائفية ومذهبية تهدد وحدته وتماسكه في ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة، لكن الشعب اللبناني مصر على حماية الجمهورية، وإقامة نظام سياسي جديد يتعاطى مع اللبنانيين كونهم مواطنين أحراراً في دولة ديمقراطية ذات مؤسسات عصرية، فهل يطول زمن الفراغ السياسي المسيء إلى لبنان، بعد تغييب الدولة وإلحاقها تبعياً بزعماء العصبيات الطائفية؟

 

Email