البرلمان اللبناني يواجه حركة مطلبية شاملة

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخل يوم 14 مايو 2014 في ذاكرة اللبنانيين، باعتباره يوم الغضب الشعبي الأكثر إثارة في تاريخ لبنان منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975.

فقد نجحت هيئة التنسيق النقابية في حشد أكثر من مئة ألف لبناني في شوارع بيروت، وتجمعت حشود أخرى على امتداد الأراضي اللبنانية، التي شهدت إضرابا رائعا لتحقيق مطالب حياتية لطبقات فقيرة تجاوزت بوحدتها الوطنية جميع الانقسامات السياسية والطائفية والمذهبية.

حشد النواب أكثر من مئة من جميع الكتل السياسية، لكنهم لم يمتلكوا الجرأة الكافية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب بصورة عادلة تنصف الموظفين، والمعلمين، والمتعاقدين، والعسكريين، والمتقاعدين، والأجراء، وغيرهم من الطبقات الشعبية التي تمثل أكثر من مئتي ألف عائلة لم تنل حقوقها منذ أكثر من ثمانية عشر عاما.

لذلك حدد رئيس المجلس النيابي جلسة أخرى للاستمرار في مناقشة السلسلة في 27 مايو الجاري، وسط انسداد الأفق الرئاسي، وعدم وجود أي معطى حقيقي يبشر بانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

هكذا فتحت المعركة على مصراعيها بين برلمان مدد لنفسه بصورة غير شرعية، وهيئة التنسيق النقابية التي نالت شرعيتها بإجماع شعبي قل نظيره. وانتهت جولة 14 مايو بإظهار قدرة الحركة النقابية على حشد اللبنانيين في الشارع، فخرجت قوية ومتماسكة، مصرة على مطالبها المحقة، وهي تحضر لخوض جولات أخرى من موقع متقدم في المعادلة الوطنية.

في المقابل، خسر البرلمان، والحكومة، وكبار رجال المال والأعمال، احترام الشعب اللبناني، ووجهت إليهم انتقادات لاذعة وعنيفة، بوصفهم «تحالف الفاسدين والمفسدين» الذين قادوا إلى انهيار لبنان، وعجزوا عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وهم يمثلون طبقة نهبت أموال اللبنانيين وأفقرت نسبة كبيرة منهم، حيث تدنت نسبة الطبقة الوسطى في لبنان من 72% قبل عام 1975، إلى أقل من 20% في المرحلة الراهنة.

أثبتت المواجهة في البرلمان أن التحرك النقابي الذي بلغ أوجه في يوم الغضب الشعبي، ليس مرحلة عابرة في تاريخ الحركة المطلبية اللبنانية، بل أصبح يوما تاريخيا من أيام الاستقطاب الوطني لتحقيق مكاسب مطلبية جامعة.

فبات «14 أيار 2014» يوما مجيدا في تاريخ لبنان، اتحدت فيه جماهير كل الطوائف والمذاهب والانتماءات السياسية من جميع المناطق. فعاد للعمل النقابي بريقه عبر هواء وطني نظيف، وخال من جراثيم الطائفية والمذهبية والانقسامات السياسية السخيفة بين 8 و14 آذار، التي عطلت مؤسسات الدولة اللبنانية على جميع المستويات.

صحيح أن هيئة التنسيق النقابية لم تنجح حتى الآن في إقرار السلسلة التي انتظرها كثير من اللبنانيين، لكنها ربحت وحدتها وتماسكها، وهي تراهن على توليد حركة نقابية نضالية صلبة، حشدت عشرات آلاف الموظفين والمعلمين والمتعاقدين والمتقاعدين.

فشكلوا سلسلة بشرية انتشرت على مسافة طويلة وسط بيروت، وفرضت حضورها الطاغي على جلسة البرلمان التي امتدت من الصباح الباكر إلى ما بعد منتصف الليل، دون أن تتمخض عن أي قانون ينصف أصحاب الحقوق من اللبنانيين.

وأثبت هذا اليوم النقابي الطويل أن ما يجمع بين اللبنانيين أكبر بكثير مما يفرقهم، وأن المطالب الاجتماعية المحقة تشكل مساحة للالتقاء يمكن أن تتسع لكل المتطلعين إلى العدالة الاجتماعية، والحقوق الإنسانية والوظيفية، أيا كانت ميولهم وانتماءاتهم.

في المقابل، بدا واضحا أن قوى الفساد والإفساد، داخل البرلمان وخارجه، غير مستعدة لإقرار السلسلة وإنصاف ذوي الحقوق. فتم تأجيل الجلسة، وسط تخوف هيئة التنسيق من وجود نوايا خبيثة لتضييع السلسلة، بالتزامن مع فراغ متوقع في الرئاسة الأولى بعد أيام قليلة.

وبعد أن أعلنت هيئة التنسيق النقابية استنكارها للمماطلة في إقرار السلسلة، دعت إلى عودة طبيعية للعمل في المدارس الرسمية والخاصة والإدارات العامة، وبدأت التخطيط لخطوات تصعيدية بعد 27 مايو الجاري. فهي لن تستدرج إلى أي صراع سياسي، بل تنتظر أن يقوم البرلمان بدوره في انتخاب رئيس جديد للبنان، قبل أن تعاود تحركاتها التصعيدية.

تجدر الإشارة إلى أن الصراع الدائر الآن بشأن السلسلة والضرائب، لا يتعلق بالرأسمالية ونظامها الليبرالي السائد في كثير من دول العالم، بل بنموذجها اللبناني القائم على اللصوصية والمحسوبية والتمييز ضد القوى المنتجة في لبنان. فهو يتيح الفرصة لعدد قليل لا يتجاوز 1% من أصحاب السلطة والنفوذ، لأن يحقق أرباحا هائلة دون تسديد سوى نسبة ضئيلة جدا من الضرائب المستحقة عليها.

عاجلا أم آجلا سيتم إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وفق صيغة عقلانية تحفظ حقوق الموظفين والمعلمين والمتقاعدين، دون أن تعرض الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان لمخاطر كبيرة. وذلك يتطلب إنقاذ السنة الدراسية للطلاب والامتحانات الرسمية من الضياع، وإبعاد الحركة النقابية عن المزايدات الحزبية والسياسية والنيابية.

 فلا يجوز أن يدفع طلاب لبنان الثمار المرة لمواجهة غير متكافئة بين السلطة اللبنانية، على اختلاف مؤسساتها، وهيئة التنسيق النقابية التي ما زالت تهدد بمقاطعة الامتحانات الرسمية في حال عدم الاستجابة لمطالبها. فهل يتحول طلاب لبنان ومعلموهم وأهاليهم، والفئات الشعبية الفقيرة، إلى ضحايا لنظام سياسي زبائني يهدد اللبنانيين بالفقر والجهل والتهجير؟

 

Email