تبدلات السياسة اليابانية تجاه المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

اليابان دولة فاعلة في النظام العالمي، ولها دور اقتصادي ومالي وتكنولوجي كبير يفوق أضعاف دورها في المجالين السياسي والعسكري. وقد بدت صورتها سلبية، منذ نهضتها الثانية بعد سقوطها تحت الاحتلال الأميركي، وكانت توصف بالعملاق الاقتصادي تحت الحماية العسكرية الأميركية.

لذا عملت الدبلوماسية اليابانية لتصويب هذه الصورة طوال العقود المنصرمة، من خلال مواقف عملية تؤكد تمايزها النسبي عن السياسة الأميركية. أولا: أصرت اليابان على التخلص من قيود الحرب العالمية الثانية، التي حرمتها من القدرة العسكرية الكافية للدفاع عن أراضيها.

ثانيا: تلتزم اليابان ببنود دستورها السلمي، وخاصة المادة التاسعة التي تحظر عليها التسلح لأغراض توسعية. ثالثا: تسعى اليابان لتعديل تركيبة مجلس الأمن لكي تصبح عضوا فاعلا في النظام العالمي.

وشكلت تلك العناصر مجتمعة خلفية واقعية لفهم علاقة اليابان بمنطقة الشرق الأوسط في بعدها الاستراتيجي، لبناء علاقات مستقبلية سليمة مع مجموعة الدول العربية والإسلامية، ومشاركتها الفاعلة في إيجاد حل دائم وعادل للصراع العربي - الصهيوني.

بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، بادرت الدبلوماسية اليابانية إلى تتبع أدق تفاصيل الأحداث الجارية في الشرق الأوسط

. واستضافت سلسلة من المؤتمرات والندوات، التي ضمت دبلوماسيين ورجال أعمال ومثقفين وعسكريين وإداريين، من دول الشرق الأوسط المنتفضة، بهدف التعرف على أسباب الانتفاضات وتوجهاتها المستقبلية.

وعقدت مؤتمرا لأصدقاء سوريا، قدمت من خلاله مساعدات مالية وعينية متزايدة للنازحين السوريين وللدول التي استضافتهم، وخاصة لبنان والأردن.

وتسعى اليابان إلى بلورة استراتيجية جديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط، تتضمن توجهات ذات أبعاد مستقبلية، لمساعدة شعوب هذه المنطقة وضمان مصالح اليابان فيها.

أ- طالبت اليابان بنزع أسلحة الدمار الشامل، ومنع انتشار أو تطوير الأسلحة النووية في الشرق الأوسط وفي دول جنوب وشرق آسيا، وأصرت على وضع السلاح النووي، أينما وجد في إيران وإسرائيل وكوريا الشمالية وغيرها، تحت رقابة الأمم المتحدة.

ب- رغم تضامن اليابان مع الولايات المتحدة في سياستها الشرق أوسطية، لأسباب استراتيجية ذات صلة بضمان مصالح اليابان العليا، إلا أنها رفضت الحل العسكري الذي تبنته أميركا، وطالبت بفرض حلول سلمية برعاية الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة دون سواها.

ج- حين خرجت إدارة الرئيس بوش عن الشرعية الدولية واحتلت العراق عام 2003، استجابت حكومة اليابان جزئيا للضغوط الأميركية، لكنها لم ترسل قوات عسكرية إلى العراق، وتذرعت بأن دستورها السلمي يحظر عليها إرسال قوات عسكرية خارج أراضيها.

ورغم انسحابها المبكر من العراق، نجحت المعارضة اليابانية في إسقاط حكومة الحزب الليبرالي الديمقراطي في انتخابات 2009، بعد أن صوت الشعب الياباني بكثافة إلى جانب الحزب الديمقراطي الياباني الذي رفض بشدة مبدأ الحرب على العراق.

د- أدانت اليابان العنف الدموي المستمر في منطقة الشرق الأوسط، ودعت إلى تنفيذ بنود خارطة الطريق التي تنص على إقامة دولتين متجاورتين: فلسطين وإسرائيل.

وطالبت إسرائيل بتنفيذ القرارات الدولية، ومنها قرار محكمة العدل الدولية الذي يلزمها بهدم الجدار العازل والتعويض على المتضررين منه، ورفضت تغيير الحدود في دول الشرق الأوسط وفرض الاحتلال الدائم بالقوة وفق ما قامت به إسرائيل منذ حرب 1967. وواجهت ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل في مجلس الأمن، فصوتت دوما إلى جانب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

لكنها تمنعت عن التصويت على قرارات تفرض عقوبات دولية على إسرائيل، خشية إغضاب الأميركيين. وتتمسك اليابان بالحل السلمي لأزمة الشرق الأوسط، من خلال حوار مسؤول بين أطراف النزاع، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بكامل بنودها، ومنع إسرائيل من التملص منها كما حصل منذ مؤتمر مدريد.

واندفعت اليابان بقوة إلى دراسة الانتفاضات الشعبية العربية، التي هددت بقاء السلطة المركزية في أكثر من دولة منتفضة.

فهي من أكثر دول العالم استفادة من الحل السلمي لأزمة الشرق الأوسط، ولديها قدرات مالية وتقنية كبيرة لتوظيفها في هذه المنطقة. ولها مشاركة فاعلة في مؤتمرات الدول المانحة لكل من أفغانستان والعراق، وتوظيف رساميل كبيرة فيهما.

ولم تشارك في القتال العسكري ضد شعوب الشرق الأوسط، بل حددت مهمة قواتها السلمية بتقديم المعونات الإنسانية لها، ولديها مخطط طويل الأمد للتعاون الثقافي والتكنولوجي مع الدول العربية والإسلامية.

وتظهر البيانات والتقارير الرسمية الكثيفة الصادرة عن وزارة خارجية اليابان ومواقف ممثليها ومندوبيها في المنظمات الدولية، خطأ التقارير الصحافية السائدة في العالم العربي، حول ابتعاد اليابان عن مشكلات الشرق الأوسط، والاكتفاء بدعم الموقف الأميركي في المحافل الدولية.

وتراهن اليابان على إدخال تغييرات جذرية على النظام العالمي، تمكنها من عضوية دائمة في مجلس الأمن، وفق صيغة جديدة أكثر فاعلية.

ولم تعد سياسة اليابان تجاه الشرق الأوسط، أسيرة البعد الجغرافي وارتباط اقتصادها بنفط هذه المنطقة، والخضوع للقرار العسكري الأميركي الرامي إلى التحكم فيها.

فاليابان اليوم قادرة على حل مشكلتها النفطية، باعتماد مصادر أخرى للطاقة خارج نفط هذه المنطقة.

وتعرض التحالف الأميركي الياباني لهزة عميقة داخل اليابان، بسبب النزعة الأميركية للسيطرة على العالم، ودفع الدول الآسيوية إلى صدامات دموية مع المارد الصيني.

وبرز تيار وطني يدعو لخروج اليابان من تحت المظلة الأميركية، وتعزيز علاقاتها بمحيطها الآسيوي، وإيجاد حل سلمي وليس عسكريا، لأزمة السلاح النووي في كوريا الشمالية، عبر تقديم المزيد من المساعدات الاقتصادية لشعبها. ختاما، تدرك اليابان فشل الحلول العسكرية الأميركية في الشرقين الأوسط والأقصى، وتتبنى الحلول السلمية للمشكلات الإقليمية والدولية في المرحلة الراهنة.

ودعت الأمم المتحدة إلى إلزام إسرائيل بتنفيذ قراراتها، ورفض العنف من أي جهة أتى، لأنه يزيد المشكلات تعقيدا.

وأكدت مرارا دعمها للحقوق الوطنية المشروعة لجميع شعوب الشرق الأوسط، وخاصة حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، وعدم القبول باحتلال أراضي الغير بالقوة. وتقدم مساعدات مالية وتقنية للشعوب التي نكبت بحروب داخلية أو إقليمية، في إطار برنامج الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، إلى جانب مساعدات مالية وتقنية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

 وتطورت استراتيجية اليابان تدريجيا في عصر العولمة، ونجحت في الحفاظ على الحياد الإيجابي تجاه شعوب الشرق الأوسط، ورفضت بشدة الانجرار وراء مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يلحق أضرارا بالغة بسكان المنطقة وبمصالح اليابان الكبيرة فيها.

 

Email