في حواره مع الإذاعة الوطنية الأميركية، وخلال جولته الأولى في الولايات المتحدة بوصفه وزير خارجية مصر الأول بعد 30 يونيو، حاول نبيل فهمي تقريب شكل العلاقة بين القاهرة وواشنطن إلى اللغة التي يفهمها المستمع الغربي عامة والأميركي خاصة، وتتصل بمسألة علاقات القوى الدولية ومدى قوتها أو العكس، وغالباً ما يستخدم مصطلح «زواج كاثوليكي» للتدليل على علاقة من نوعية علاقة واشنطن ولندن، ذلك أنه من المعروف أن الزواج الكاثوليكي هو عقد لا طلاق فيه أو رجعة عنه، ولا ينتهي إلا بموت أحد الطرفين أو كليهما معاً.
لم يستخدم نبيل فهمي مصطلح الزواج الكاثوليكي ليوصف علاقة مصر بأميركا، وإنما أشار إلى أنها زواج شرعي، وليست نزوة عابرة.
هذا التصريح نكأ جرحاً غائراً عند كثير من المصريين الرافضين لفترة الانبطاح المصري للإرادة الأميركية في العقود الثلاثة المنصرمة، ولهذا انفتحت السماء وتفجرت ينابيع الغمر العظيم، غضباً ورفضاً لهذا التوصيف الذي اعتبره البعض مذلاً ومهيناً لمصر، ودعا البعض إلى إقالة فهمي من منصبه.
تأمل المشهد بروية ورصانة، يفيد بأن الرجل لم يخطئ ولم يتهاون في حق بلده أو يوجه لها إهانة، بل إنه انطلاقاً من عمله السابق كسفير لمصر في الولايات المتحدة لسنوات طوال، فهو يفهم جيداً كيف أن واشنطن لن تخلو أبداً من أولئك الذين يقومون بتعريفك ورسم صورتك حسب أهوائهم، إن أنت تقاعست عن تعريف ذاتك والمناداة بقضيتك، وشرح رؤيتك الوطنية بموضوعية ومصداقية.
من هنا فإن نبيل فهمي وهو يتحدث عن علاقة الزواج الشرعي بين القاهرة وواشنطن، لم يكن يدغدغ مشاعر الأميركيين ولا يهين أحاسيس المصريين، بل يؤكد حقيقة بعينها قائمة بالفعل، مع مراعاة أن الثقافة الإنجليزية لا تعتبر الزواج مرادفاً لـ«النكاح»، كما هو الحال في الثقافة العربية، ولهذا فإن الأمر لا يتعدى كونه تعبيراً مجازياً مقبولاً.
فكرة الزواج الشرعي في المبتدأ والخبر، تقوم على وجود عقد شرعي بين طرفين متكافئين، لكل منهما قدره واستقلاله واحترامه وحريته، ولذلك إن استقامت الحياة بهما مضت العلاقة قدماً، وإن تعذرت بسبب الخلافات فإن الطلاق هو الأداة الشرعية أيضاً للانفصال، وهو أمر يختلف شكلاً وموضوعاً عن العلاقات والنزوات الطارئة التي لا ترتب افتراقاً شرعياً.
يتساءل المرء؛ هل استخدم تعبير الزواج الشرعي من قبل في مثل هذه المواقف؟
في 10 يوليو 2013 وفي قلب العاصمة الأميركية واشنطن، تحدث نائب رئيس الوزراء الصيني «وانغ يانغ»، واصفاً العلاقة بين بكين وواشنطن بأنها علاقة زواج لا تحتمل طلاقاً مكلفاً. أما المحللة السياسية في شبكة CNN الأميركية «ايليز لابوت»، فقد وصفت علاقة باكستان بالولايات المتحدة بأنها «زواج غير مستقر»، وهو الوصف نفسه الذي استخدمه الوزير المصري مع وسائل الإعلام الأميركية..
لماذا هذه الضجة إذاً؟ جزء كبير منها في واقع الأمر يعود إلى الذاكرة الجمعية التاريخية المصرية، وما خلفه الماضي من جروح في النفس المصرية، ففي زمن الاحتلال البريطاني لمصر، تحدث أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد، ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية، عن شكل العلاقة بين القاهرة ولندن فوصفها بأنها زواج كاثوليكي، أي أنها علاقة غير قابلة للانفصال أبداً، الأمر الذي كلفه حياته اغتيالاً على يد جماعة الشباب الوطني المصري.
لم يقل نبيل فهمي إنها علاقة زواج كاثوليكي، ليجعل من الطلاق شأناً قائماً حال تضاربت المشارب أو اختلاف المصالح. وقد أشار بالفعل إلى أن فكرة قطع المعونة الأميركية عن مصر أمر يمثل انقلاباً في جذور العلاقات المصرية مع واشنطن، ما يعني ضمناً أن مصر ليست تابعاً حصرياً لأميركا لا يرد لها أمر أو نهي.
هل كان نبيل فهمي يغازل بهذا التصريح جماعات بعينها لها اهتمامات خاصة بمصر والعالم العربي؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، خاصة وأن زيارته جاءت بعد زيارة أخرى جرت في أطر من السرية، للواء التهامي مدير المخابرات العامة المصرية، فيما يشبه التناغم المصري بين لغة القوة ولغة الدبلوماسية.
تحدث الجنرال التهامي مع العسكريين الأميركيين، وتحدث الوزير فهمي مع الدبلوماسيين والإعلاميين ومراكز الأبحاث والدراسات والرأي العام الأميركي، وكلاهما هدف إلى توضيح طبيعة العلاقات الشرعية الأميركية المصرية، وإن مرت بلحظات خلاف قابل للحل.
جولة الجنرال والوزير كان لا بد منها لإرسال رسالة مصرية للتجاوب مع جنرالات البنتاغون، الذين رفع قادة أركانهم رسالة إلى ساكن البيت الأبيض في نهاية يناير الماضي، تطالبه بالتخلي عن جماعة «الإخوان» والاعتراف بثورة المصريين، وقد وقر لديهم أنه لا يمكن حفظ مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، من خلال معاداة المؤسسة العسكرية المصرية.
كما أن حظر السلاح الأميركي عن مصر سيدعوها، ومن خلفها بقية الدول العربية، إلى تغيير مصادر السلاح إلى روسيا وغيرها من دول العالم، الأمر الذي يصيب المجمع الصناعي العسكري الأميركي إصابات بالغة، في الحال والاستقبال. إنها البراغماتية الأميركية المعتادة، ومع ذلك لا بأس في التعاطي معها بالعقلية نفسها، إن كانت هناك مصلحة وطنية، وهو ما تعاطاه الوزير فهمي. أما الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة، فضرها أغلب من نفعها. ويكفي الرجل أنه وطوال عشرة أشهر، حارب ولا يزال الوحوش في واشنطن وبروكسل وتل أبيب، ما يقتضي الترفيع لا الإقالة.