«مَحَد عايش حياته صح غيرهم»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تخلو أحاديثي مع الأصدقاء أو مع الأهل، من بعض المقارنات بيننا نحن الإماراتيين وبين المقيمين في أرض الوطن.

المقارنات بين حالنا وحالهم، ودائماً ما تتخلل هذه المحادثات جملة مفادها "مَحَد عايش حياته صح غيرهم"، بقصد أنهم مستمتعون بمعيشتهم في دولتنا أكثر منا نحن المواطنين. لا أدري هل هو حبنا لتقمص دور الضحية أم أننا اعتدنا على تكرار الجملة! في دولة الإمارات التي تقدم الكثير لمواطنيها، قد نستغرب أن يصدر مثل هذا التعليق منهم. لا أتكلم عن المميزات التي يقدمها الوطن، ولكن عن الاستمتاع بكل المميزات المعيشية والوسائل الترفيهية.

نحن منهمكون في مشاغلنا اليومية والعملية، لدرجة أننا ننسى أنفسنا وننسى حياتنا الخاصة وحياة هؤلاء الذين من حولنا. المئات منا كذلك يغرقون في نفس المعضلة، يعيشون بداية على مقاعد الدراسة ويحصلون على شهاداتهم، ويناضلون لأجل الوظيفة، وما أن يحصلوا عليها حتى يقضوا سنين طويلة من حياتهم يحاولون إثبات وجودهم في المؤسسة التي يعملون فيها، ومعظمهم يعيشون في تعاسة في تلك المؤسسة وتنزلق سنوات العمر رويداً رويداً في نضالهم الطويل، ليكتشفوا أنهم قضوا أجمل سنيهم منغمسين في أعمال لم تضف إلى رصيد حياتهم إلا القليل.

والذين منّ الله عليهم بأسرة، تجدهم يعودون إلى منازلهم محملين ومثقلين بهمومهم ومشحونين بمشاكلهم، ويصبح وجودهم في المنزل جحيماً لأسرتهم، لكثرة شكواهم وعدم قدرتهم على الفصل بين حياتهم العملية والخاصة. فيلومون الظروف الصعبة، وذلك المدير غير المتفهم، وتلك المؤسسة الظالمة التي جعلتهم يهربون من منازلهم إلى أقرب مقهى ليحرقوا رئاتهم بالشيشة، أو إلى منزل أحد الأصدقاء ليفرغوا تلك الشحنات السلبية، ويتركوا الأطفال في عهدة الخدم والمربيات.

ينتابني القلق من غياب الأولويات في حياة البعض من أولياء الأمور، خاصة في ما يتعلق بفلذات الأكباد. فقرار تشكيل الأسرة والإنجاب لم يكن قراراً عارضاً، بل هو مسؤولية كبيرة. ويجب التعامل مع الأبناء بقدر كبير من الاهتمام ووضعهم في قمة الأولويات، والنظر في احتياجاتهم النفسية والفكرية، وليس فقط الاحتياجات المادية.

في زياراتي لبعض المعارض في الدولة الموجهة للطفل، مثل معارض الكتب وورشات العمل التي تقام على هامشها، لاحظت توافد المقيمين من مختلف الجنسيات عليها مصطحبين عائلاتهم، وقد أحزنني فعلاً غياب الإماراتيين عن هذه المشاهد الثقافية والفكرية للطفل، فرجحت أن السبب ربما يكون قلة التسويق لهذه الفعاليات. وتحدثت مع المنظمين، لكنهم أبلغوني أنه تم التسويق لهذه الفعاليات في معظم الصحف والمنشورات. وقمت ببعض الاتصالات لتشجيع البعض للانضمام إلي وإلى أطفالي في هذه الورشات، وللأسف فإن الأعذار الواهية كالانشغال بالأمور الحياتية، حالت دون ذلك.

والأمر نفسه يتكرر في الفعاليات والمناسبات والاحتفالات المختلفة التي تخص المدارس، إذ نجد توافد غالبية الجنسيات وقلة المواطنين، وأتمنى لو أنني أستطيع استخدام عذر اختلال التركيبة السكانية لعدم تواجد الإماراتيين. الاحتفال باليوم الوطني، ولله الحمد، ما زال استثناء، حيث نجد كماً جميلاً من المواطنين الإماراتيين يحتفلون في مدارس الدولة.. إذاً فالتواجد بكل وضوح اختياري حسب المناسبة.

وقد قامت إحدى زميلاتي بدراسة ميدانية في أحد الأسواق التجارية المحلية، بغرض الإعداد لبرنامج تلفزيوني للأطفال، وسجلت سلوكيات العائلات الخليجية من خلال رصد تصرفاتهم وقراءة لغة الجسد، دون محادثتهم. وأشركتني في نتائج ما رصدته، ومنه قلة تواصلهم مع بعضهم وندرة حديثهم مع أطفالهم، واعتماد الأمهات شبه الكامل على المربيات في رعاية أطفالهن.

وفي بعض الحالات التي جرى رصدها، تم جمع الأطفال بذويهم وإعادة شمل الأطفال بأجهزتهم الإلكترونية، لينعم أولياء الأمور ببعض الصمت والسكينة طبعاً. لا أحب أن أعمم الحالات هذه على الجميع، ولكن هذا ما تم رصده في تلك الجلسة، وقد لا ينطبق على الكل ولكنه يعبر عن واقع مرير نعيشه. ونعود لنتساءل؛ لم يضيع الأطفال؟

لم لا يتواصلون معنا؟ لم تنتشر ظواهر عقوق الوالدين؟ لم نشاهد سلوكيات دخيلة على مجتمعاتنا؟ لم ولم.. ولم؟ أتفهم انشغال الكثيرين في سباق الحياة الجنوني واستغراقهم في إيقاعها السريع ومعاناتهم من التوتر والضغوط، ولكنهم يدورون في حلقة مفرغة إذا لم يقوموا بتحديد الأولويات والموازنة بين العمل وبين الأسرة. نعم، كلنا مشغولون، ولكن الأطفال مسؤولية عظيمة، وهم ليسوا مسؤولية الأم فقط كما يدعي البعض، بل للأب دور كبير في المسألة أيضاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

نعم، المقيمون على أرض الدولة "عايشين حياتهم صح"، لأنهم لا يخشون من مسألة أن يخدش "برستيجهم" إذا أقاموا رحلة شواء في مكان عام، ولأنهم لا يحتاجون إلى مسافة كيلو تفصلهم عن أي عائلة أخرى في حديقة الهايد بارك الخليجي، ولأنهم يأخذون أطفالهم إلى ورشات العمل التي تصرف عليها الدولة ملايين الدراهم لتستقطبها من الخارج، ولأنهم لا يقضون مجمل وقتهم في نفس الأسواق التجارية، وفي نفس المقاهي أمام نفس الجرسونات كل أسبوع.. بكل بساطة، لأنهم يعرفون كيف يحددون أولوياتهم!

الأسوأ من السئ هو أن يستمر الحال على ما هو عليه، ولكن الأمل كبير في كل شخص مسؤول عن أسرته. ففرصة التحسين موجودة، وكلنا نريد ما هو أفضل لأطفالنا. لنعد النظر في أولوياتنا، ولنخصص يوماً على الأقل لأطفالنا، ولنحاول أن نتواصل معهم بكل الطرق المتوفرة. لنعد تقييم حياتنا، لأن الحياة تمضي بوتيرة سريعة جداً ومعها يكبر هؤلاء الأطفال. لنخلق معهم تلك اللحظات الإيجابية التي ستنحت في الذاكرة، وستترك أثراً طيباً في نفوسهم إلى أمد طويل.

Email