رئيس صنع في لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الأسبوع الماضي (23 أبريل)، عقد المجلس النيابي اللبناني أولى جلساته الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. حضر الجلسة 124 نائباً من أصل 128 يمثلون كامل أعضاء المجلس، وتغيب أربعة لأسباب قاهرة.

ما يعني أن جميع النواب قد حشدوا للمشاركة الفاعلة في انتخاب رئيس للجمهورية، تكون له القدرة على إدارة دفة الحكم في حالة الاستقرار، أو إدارة الأزمة المستفحلة بين القوى اللبنانية. كانت الجلسة بمثابة اختبار حقيقي لأحجام الكتل النيابية، وتبين في نهايتها أن أرقام القوى السياسية متقاربة، بحدود 57 نائباً لكل من الكتلتين الكبيرتين.

فقد نالت جماعة 8 آذار 52 ورقة بيضاء ترمز إلى مرشحها الجنرال ميشال عون رئيس التيار الوطني الحر، و48 ورقة باسم سمير جعجع قائد القوات اللبنانية والمرشح الوحيد لجماعة 14 آذار. ونال النائب هنري الحلو 16 صوتاً بصفته ممثلاً للكتلة الوسطية التي يتزعمها وليد جنبلاط، رئيس جبهة النضال الوطني، وتم إلغاء أوراق عدة لأسباب مختلفة.

في نهاية الجلسة، دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى جلسة أخرى اليوم (30 أبريل)، واشترط حضور 86 نائباً لكي تكون الجلسة دستورية في جميع المرات المقبلة، وأن الرئيس المنتخب يحتاج إلى 65 صوتاً على الأقل ليعلن فائزاً، بموجب النص الدستوري.

لذلك انصرف الجميع إلى دراسة متأنية لنتائج اختبار الجلسة الأولى، والتي قد تكون يتيمة قبل التوافق على رئيس جامع يلم شمل الكتل البرلمانية، ولا يشكل استفزازاً لأي من الطوائف أو التيارات السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية. وستبقى جميع الجلسات مفتوحة حتى 25 مايو 2014، إلى أن يؤمن شرط حضور الثلثين.

وفي حال عدم اكتمال النصاب الدستوري لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية، يدخل لبنان في فراغ رئاسي تدير الأعمال فيه الحكومة الحالية، إلى حين انتخاب رئيس تسوية أو بروز تبدلات جذرية في مواقف الكتل الثلاث.

بدا واضحاً أن مواقف القوى السياسية اللبنانية ما زالت متباعدة جداً، إذ يتمسك كل فريق باسم مرشحه، في انتظار توافق محلي وإقليمي ودولي على مرشح تسوية، على الطريقة التقليدية المعتمدة في غالبية الانتخابات الرئاسية في لبنان منذ الاستقلال حتى الآن.

وأظهرت أرقام الجلسة الأولى استحالة لبننة الانتخاب الرئاسي بالكامل، كما يدعي بعض اللبنانيين. والتشدد في المواقف المعلنة للكتل البرلمانية من جانب الفرقاء الثلاثة، يقود بالضرورة إلى تعطيل جلسات الانتخاب، وإلى مخاطر الدخول في الفراغ الدستوري. وفي حال حظي أي فريق داخلي بدعم خارجي، فليس بإمكانه أن يفرض منفرداً مرشحه على مكونات لبنانية متباعدة.

فالجميع يرفض تغليب فريق على آخر، ويفضل شعار «لا غالب ولا مغلوب»، لأن لبنان بحاجة إلى رئيس توافقي يأتي من صف الاعتدال والوسطية ولم الشمل، ولا يشكل تحدياً طائفياً يتعارض مع مقدمة الدستور اللبناني.

إن الأرقام التي أظهرتها الجلسة الأولى، ستحكم مسار عملية الاستحقاق الرئاسي في جميع الجلسات المقبلة. وقد رفع الزعماء اللبنانيون شعاراً جميلاً هو «نريد رئيساً صنع في لبنان».

وهو تقليد نادر جداً في تاريخ انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، وخاصة بعد تفرد القيادة السورية بالقرار السياسي اللبناني لسنوات طويلة، ومن ثم تعدد مراكز القرار الخارجي في هذه المجال، بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005.

وبات في حكم المؤكد أن ما حصل في الجلسة الأولى، لن يتكرر في جلسة اليوم ولا في الجلسات المقبلة، من حيث تأمين النصاب الدستوري لعقد الجلسات، دون التوافق على صيغة معينة تضمن وصول رئيس لا يشكل تاريخه السياسي استفزازاً لمكونات المجتمع اللبناني.

ورسمت نتائج الجلسة الأولى ملامح مرحلة سياسية معقدة في تاريخ لبنان المعاصر، فقد دلت على وجود رغبة لدى بعض القوى السياسية في تحرير إرادة اللبنانيين في انتخاب رئيسهم دون تدخلات خارجية. لكن الأرقام المعلنة أبرزت طغيان كفة السلبيات على الإيجابيات، من حيث الشكل والمضمون.

فالقوى السياسية منقسمة بصورة عمودية تهدد انعقاد الجلسات المقبلة حتى نهاية المهلة الدستورية، فيتحول شعار «رئيس صنع في لبنان» إلى فراغ رئاسي لأجل غير محدد. ويتخوف اللبنانيون من العودة إلى تفجيرات دموية محدودة، تستدعي تدخلات إقليمية ودولية لفرض رئيس توافقي على اللبنانيين، كما جرت العادة في مرات سابقة.

لذلك حذرت أوساط بارزة في النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية في لبنان، من هذا الاتجاه الذي سيجعل تعثر تنفيذ الاستحقاق الرئاسي سبباً مباشراً لعودة أجواء التوتر، بعد فترة من الهدوء والاستقرار في ظل الحكومة الحالية.

والسؤال الأساسي الذي يشغل بال اللبنانيين اليوم هو التالي: لبنان إلى أين؟ لكن الإجابة عليه تتطلب الكثير من الصبر والتروي. فمع انعقاد الجلسة الثانية اليوم، تتضح بعض ملامح الصورة الضبابية التي ما زالت تلف الاستحقاق الرئاسي في لبنان.

وتتمحور المواقف حول صدقية شعار «رئيس صنع في لبنان»، وإمكانية إنجاز الاستحقاق الرئاسي لبنانياً، ومواقف الزعماء المسترئسين من مسألة الفراغ الرئاسي، الذي تكرر أكثر من مرة وبقي لأشهر عدة حتى إنضاج تسوية خارجية.

ختاماً، مازال شعار «رئيس صنع في لبنان» مجرد حلم. فليس هناك ما يؤكد أن زعماء الطوائف في لبنان باتوا على قناعة بضرورة وجود رئيس توافقي قوي، يقود السلطة التنفيذية وفق بنود اتفاق الطائف، ويقيم التوازن مع السلطة التشريعية، ويحترم استقلالية السلطة القضائية وإطلاق يدها في معاقبة الفاسدين والمفسدين. فزعماء الكتل السياسية لم يظهروا أي اهتمام يذكر بأمن اللبنانيين، وضرورة حل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية.

وليست لديهم رغبة حقيقية في إجراء انتخابات نيابية نزيهة وشفافة، بعد التفاهم على قانون عصري للانتخابات يعيد الشرعية إلى الشعب اللبناني بصفته مصدر الشرعية.

 ومازالوا يعتبرون اللبنانيين رعايا طوائف ملحقين قسرياً بقادة ميلشياتها، وليسوا مواطنين أحراراً في دولة ديمقراطية عصرية. بعبارة موجزة؛ لم تتبدل ذهنية زعماء الطوائف في لبنان، ولا يوجد ما يؤكد استعدادهم لإقامة دولة ديمقراطية حقيقية تعيد الأمن والاستقرار للبنان، وتعطي نظامه السياسي المناعة الداخلية، لكي يلعب دوراً فاعلاً في نظام إقليمي عربي جديد، يجري الإعداد له بعد الانتفاضات الشعبية.

 

Email