انتفاضة اللبنانيين ضد دولة الفساد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يشهد لبنان في تاريخه المعاصر حركة احتجاج مطلبية، بهذا الحجم من الاتساع والكثافة والشمولية، والإصرار على تحقيق المطالب مهما بلغت التضحيات. فقد اندفعت جماهير الهيئات المطلبية إلى وسط بيروت لتحاصر البرلمان اللبناني، مطالبين بإقرار سلسلة الرتب والرواتب التي أقرتها الحكومة السابقة.

فعقد البرلمان جلستين متتاليتين يومي 9 و10 أبريل 2014، بعد أن أصدر سابقا قوانين أحدثت ردود فعل غاضبة لدى الحركة النسائية والمستأجرين القدامى.

 واضطر إلى تثبيت متطوعي الدفاع المدني في وظائفهم التي يعملون فيها منذ خمس وعشرين سنة، بعد أن اندفعوا داخل البحر مهددين بإغراق أنفسهم. وكان قد رضخ لضغوط المياومين في قطاع الكهرباء وثبتهم في وظائفهم. وما زال المتعاقدون في الجامعة اللبنانية ينتظرون إدخالهم إلى ملاك التفرغ، بعد أن مضى على عملهم فيها أكثر من ست سنوات.

بدا وسط بيروت في التاسع من أبريل ساحة مواجهة حقيقية بين قوى نقابية صلبة ومتماسكة، لم تخترقها أجهزة الدولة كما فعلت بالاتحاد العمالي العام الذي غاب كليا عن هذه الحركة المطلبية الضخمة.

هيئة التنسيق النقابية الجديدة تقودها قوى شابة، ولها تمثيل حقيقي لمختلف قطاعات الشعب اللبناني. فتصدت بكفاءة عالية لدولة الفساد والإفساد، ولسياسة المماطلة وتهريب القوانين المجحفة خلال دقائق معدودة. فقد صادق النواب على قوانين حساسة تطال مصالح شرائح أساسية من الشعب اللبناني، برفع الأيدي في البرلمان دون أي نقاش جدي.

أقر البرلمان قانونا جائرا لا يضمن الحقوق الأساسية للمرأة المعنّفة، فوصف بقانون حماية قتلة أزواجهم، بدلا من إنزال أشد العقوبات بهم. ولم يضمن قانون الإيجارات الجديد أبسط الحقوق للمستأجرين القدامى، فوصف بقانون تهجير أكثر من مئتي ألف عائلة من أماكن سكنهم.

وبعد جلسات مستفيضة في اللجان النيابية لدراسة مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب، بعد موافقة الحكومة السابقة عليه، ما زال المشروع ينتظر التوافق على مصادر تمويل السلسلة التي تنصف أكثر من مئة وثمانين ألف لبناني، وتغضب أصحاب البنوك وكبار التجار ورجال الأعمال.

لقد أدمن رجال السياسة في لبنان أسلوب الخداع المباشر، فهم يصرحون أمام وسائل الإعلام بأنهم مع أحقية المطالب، لكنهم يعملون على تمويلها من جيوب القوى الشعبية، بحيث تدفع ضرائب جديدة تفوق ما نالته من زيادات.

لذا قرر القطاع العام والقطاع التربوي تنفيذ إضراب شامل، مع اعتصام مركزي أمام البرلمان، وإعلان الإضراب المفتوح في حال تمنع النواب عن إقرار السلسلة وفق ما تطالب به الهيئات النقابية. اللافت للنظر أن بعض القوى السياسية المشاركة في الحكومة وفي اللجان النيابية المشتركة، دعت مناصريها إلى المشاركة في الاعتصام حفاظا على شعبيتها.

كذلك دعت غالبية الأحزاب السياسية مناصريها للمشاركة في حركات الاعتصام المتزايدة للدفاع عن حقوق الموظفين، والنساء، والمعلمين، والفلاحين، ومتطوعي الدفاع المدني، وقدامى المستأجرين، والأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية.

وذلك يطرح تساؤلات كثيرة حول سياسة الخداع المكشوف، الذي تمارسه القوى السياسية، والمصارف، وكبار رجال الأعمال والصفقات العقارية. وهناك شبكة واسعة من تجار المخدرات، والدواء الفاسد، والأغذية الفاسدة، وصفقات الكهرباء، والنفايات، والسطو على أملاك الدولة. وهي تضم سياسيين، وقضاة، وأصحاب صفقات مشبوهة لم تلق العقاب، ولم تنفذ الأحكام الصادرة بشأنها.

كان التحرك المطلبي شاملا، ولعل أبرز أهدافه:

أولا؛ تبنت الهيئة سياسة الرد الشامل على المماطلة التي مارستها اللجان النيابية المشتركة، فأطلقت "يوم الانتفاضة لتحرير الدولة اللبنانية من الهدر والصفقات"، ورفضت تمويل السلسلة من جيوب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وأصرت على إقرارها مع الحفاظ على الحقوق المكتسبة لكافة القطاعات الوظيفية.

ثانيا؛ أعلنت التحرك المفتوح والشامل على امتداد الأراضي اللبنانية، مع خطوات تصعيدية في كافة الوزارات والإدارات، من تظاهرات واعتصامات وصولا إلى الإضراب العام ومقاطعة أعمال الامتحانات الرسمية، في حال عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب دون تعديل أو تجزئة.

ثالثا؛ أكدت على أن إقرار السلسلة حق مشروع، ويتطلب تمويلها استعادة المال المسلوب من كبار التجار، وأصحاب الرساميل والشركات والمؤسسات المالية والعقارية، وأصحاب الصفقات المشبوهة.

فقد تواطأ هؤلاء جميعا مع رجال السياسة وكبار المسؤولين في الدولة، على استغلال الظروف الصعبة ليكدسوا أموالا طائلة، على حساب إفقار اللبنانيين، وضرب الطبقة الوسطى في لبنان، وتشريد المستأجرين، وعدم إنصاف المرأة اللبنانية في أبسط حقوقها الإنسانية، وتجاهل مطالب العاملين في الجامعة اللبنانية من أساتذة وموظفين.

رابعا؛ ردت هيئة التنسيق النقابية على تصريحات حاكم مصرف لبنان، الذي اتهمته بالانحياز للهيئات الاقتصادية وممارسة التهويل بخطر انهيار الاقتصاد اللبناني في حال أقرت السلسلة كاملة.

خامسا؛ أكدت الهيئة النقابية على أن المسألة لم تكن يوما قضية رواتب فحسب، بل بناء دولة الرعاية الاجتماعية. فما زال المسؤولون يصرون على إبقائها دولة المزرعة الدائمة لأصحاب النفوذ الذين أفقروا الشعب اللبناني، ولم يساندوا أيا من قطاعات الإنتاج الأساسية في لبنان.

يذكر أن سياسة تحالف رجال السياسة والمال والأعمال، أوصلت حجم الدين العام اللبناني إلى أكثر من سبعين مليار دولار، ودفعت عشرات الآلاف من الشباب اللبناني المثقف ومن العمال المهرة، إلى الهجرة والاستقرار خارج لبنان.

ولم يعد مفيدا التهويل بخفض موقع لبنان الائتماني على المستوى العالمي، لأنه منخفض منذ سنوات طويلة بسبب الفساد السياسي والإداري والمالي المستشري في مؤسسات الدولة منذ سنوات طويلة، وليس بسبب تصحيح الأجور وإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها.

ختاما، ذكر المشهد اللبناني في التاسع من أبريل 2014، بأيام مجيدة من تاريخ الحركة النقابية في لبنان. فقد طال الإضراب الشامل جميع المناطق اللبنانية، وأجبر المجلس النيابي على إقرار بعض القوانين، وما زال الضغط مستمرا لإقرار سلسلة الرتب والرواتب.

وهو زمن التحرك الشعبي الديمقراطي السلمي لمحاربة الفساد والفاسدين، وبناء الدولة اللبنانية ومؤسساتها على أسس سليمة من الشفافية والمساءلة والعقاب، وسقط القناع المزيف عن وجوه رجال السياسة المتحالفين مع حيتان المال ضد القوى المنتجة في لبنان.

وترفض الهيئة النقابية تحميل الفقراء وأصحاب الدخل المحدود أعباء سياسة مالية فاسدة، زادت مكاسب كبار المتنفذين والمحتكرين، على حساب إفقار الشعب اللبناني. فهل يشهد لبنان اليوم بداية انتفاضة شعبية حقيقية لبناء دولة الرعاية الاجتماعية على أنقاض مزرعة الفاسدين والمفسدين؟

 

Email