العشائرية والسلطة والدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكلت العشائر العراقية جيشاً لمواجهة السلطة وما زالت الحرب مستعرة بين الطرفين، كما أسست العشائر الليبية جيوشاً لمواجهة السلطة وهي تسيطر على مدن ومنشآت حيوية في ليبيا، وأنهكت عشائر دارفور الحكومة السودانية بخلافاتها منذ سنوات طويلة.

وشاركت عشائر اليمن السلطة سلطتها وما زالت تشاركها بنسبة تتزايد مع ضعف الدولة، وأخيراً اشتعلت حرب عشائرية في مصر الأسبوع الماضي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى.. وبالإجمال لا يخلو بلد عربي من الوجود العشائري الذي يشارك السلطة سلطتها.

لم تكن للعرب قبل الإسلام دولة مركزية، وكانت الجزيرة العربية وجنوب سوريا وجنوب العراق تحت حكم العشائر، فقد كانت العشيرة تقوم بمهمات سياسية واجتماعية وثقافية وخدمية عديدة هي في الأصل من مهمات الدولة، فتمنح هويتها للمنتسبين إليها وتحميهم وتقدم لهم ضماناً اجتماعياً وتساعد الفقراء منهم وتدافع عن أراضيهم ومراعيهم، وكأنها في الواقع هي الدولة أو السلطة المركزية. كما كان التوزان العشائري راسخاَ، وهو الذي أوصل للاستقرار والأمن ومنع طغيان عشيرة على أخرى.

جاءت الرسالة الإسلامية للناس جميعاً، فنادت بالمساواة بين المؤمنين كأفراد، متجاوزة العشائرية والإثنية واللغة واللون، وأي شيء يمكن أن يشكل شبهة في تساوي البشر، وبنى سلطة مركزية قوية تولت القيام بمهام العشائر، فهمشت العشائر وحولتها إلى مؤسسة خدمات اجتماعية وتضامن اجتماعي وانتساب حميد لأبنائها، وأصبحت العقيدة الإسلامية هي الرابط الجديد بين أبناء العشائر جميعاً.

وكلما قويت السلطة المركزية كلما ضعفت العشائرية في المقابل، إلا أنه عند ضعف هذه السلطة وعدم تقديمها الخدمات يعود الناس للعشائرية لتسد ما نقص. ولأسباب عديدة ومتداخلة، حصلت العشائرية على سلطات استثنائية في الدولة الأموية وفي صدر الدولة العباسية،..

وانتعشت وقدمت خدمات جلى لأبنائها، وبقي الأمر كذلك طوال العصرين المملوكي والعثماني، اللذين اهتما بالسلطة القمعية فقط وتركا أو تناسيا وظائف الدولة الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وغيرها، واهتما بالجانب الأمني دون غيره من وظائف الدولة.

لم تستطع حركة النهضة العربية إقامة دولة أو دول في البلاد العربية بمعايير الدولة الحديثة، وخاصة منها مرجعية المواطنة ومعايير الديمقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات. وبدلاً من إقامة الدولة الحديثة أُقيمت سلطة فقط، مما ترك هامشاً واسعاً من وظائف الدولة للعشائرية، فلم تكتمل مرجعية المواطنة ولم تصبح موئلاً للمواطنين جميعاً..

ولم تلغ مرجعيات ما قبل الدولة، حتى أنها تركت للعشائرية سلطتها القضائية وسلطاتها التنفيذية، فبقيت العشائر مرجعية، مثلها مثل الطائفية والإثنية، تملأ الفراغ الناتج عن تقصير الدولة، وتعزز الولاء لها على حساب الولاء للدولة...

وتقدم الخدمات التي تراجعت الدولة عنها، وذلك كله على حساب مرجعية المواطنة وحساب السلطة المركزية. وقد وجدت الأنظمة الشمولية في العشائرية تنظيمات مجتمعية يمكن الاستفادة منها لإلهاء الناس، من خلال إثارة الصراعات بين العشائر، وجعلها وسيلة تشغلها عن أخطاء السلطة المركزية وآثامها، وتجلب للسلطة بعض الاستقرار.

أعتقد أنه لا ينبغي الزعم أن وجود العشائر والقبائل شر يجب تجنبه، فقد قدمت الكثير لأبنائها وربما لأبناء غيرها، ولنتذكر أن تكتيك خالد بن الوليد في معركة اليرموك، كان الاعتماد على إبقاء أبناء العشيرة الواحدة كتلة واحدة، وكانت هذه الخطة من الأسباب الرئيسية للصمود العربي أمام الجيوش البيزنطية، والأمر نفسه اتبعه سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية ضد الجيوش الفارسية، فضلاَ عن أن دور العشائر كان بارزاً في العصرين الأموي والعباسي، في الحفاظ على الإمبراطورية العربية الإسلامية.

لقد تولت العشائر خلال التاريخ وطوال مئات السنين، دور الدولة المركزية كلما ضعفت سلطة هذه الدولة، ولعبت دور السلطة المحلية، بل الدولة المحلية، إلا أن هذه الأعمال الهامة للعشائرية كانت في مرحلة ما قبل الدولة، ولا ينبغي أن تستمر، ولا بد من العمل الدؤوب لتحويل السلطة إلى دولة حديثة عصرية، تؤكد وتعزز وتعتمد مرجعية المواطنة، وتتيح للعشائرية، في الوقت نفسه، المشاركة في مؤسسات المجتمع الأهلي، ولعب دورها الاجتماعي المطلوب المساعد والرديف لدور الدولة.

إن تحقيق هذا الهدف يتطلب التدريب على قيم المواطنة، من خلال أمور ثلاثة رئيسية هي: الديمقراطية والمساواة والحرية، فهذه الأقانيم الثلاثة هي التي تبني المجتمع الذي يعتبر الدولة (وليس السلطة) مرجعيته الأساس، والحضن الدافئ الذي يحميه ويمده بنسغ الحياة ويعطيه هويته وافتخاره بدولته، على أن لا "تشيّطن" العشائرية، كما وقع عديد من السياسات العربية (المتطرفة) في هكذا خطأ، دون أن تدرس بواقعية وبنظرة عميقة ونقدية، تاريخ العشائر والمهمات التي قامت بها عندما قصّرت الدولة في ذلك.

ولنتذكر دائماً أن إقدام العشائرية أو إحجامها يتعلقان موضوعياَ بقوة السلطة المركزية أو ضعفها، وبإقامة الدولة الحديثة من عدمه، ولا يكون بالتعامل مع العشائرية بالعنف ولا برفع الصوت ولا بالقمع، إنما بالتربية على الديمقراطية، وعلى سيادة مرجعية المواطنة، بهدف أن تتحول العشائرية إلى مؤسسة اجتماعية خيرية، كغيرها من مؤسسات المجتمع الأهلي.

 

Email