الوظائف بين الحياكة والتفصيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مؤسسة ما تم تعيين المدير الجديد، فتهافت إلى بابه الموظفون محاولين إثبات وجودهم، ولكل منهم قصة يرويها عن دورهم الريادي في المؤسسة. البعض سرد سيرته الذاتية بمبالغة، والبعض رسخوا في ذاكرة المدير، لأنهم بدأوا بديباجة المديح، فغمر المدير شعور بالنشوة والتقدير.

حالما شعر المدير بالتقدير من الموظفين (الذين لا يعرفونه حق المعرفة)، قربهم منه، وجعل منهم عيونه في المؤسسة ليبلغوه بكل صغيرة وكبيرة، وطبعاً بفلترة المعلومات حسب ما يرونه مناسباً.

في هذه المؤسسة، طمح موظف للارتقاء إلى وظيفة شاغرة، فقرأ عن المتطلبات التي يجب عليه استيفاؤها ليبلغ مراده، فعمل جاهداً للحصول على درجة الماجستير وشهادة برنامج إدارة المشاريع، وقام بتأدية دوره الوظيفي اليومي بالكفاءة المطلوبة، وأنجز كل المتطلبات، حسب مؤشرات الأداء الرئيسة، فوصل إلى التقييم السنوي..

ولكن للأسف، تمت إعادة تدويره ليستمر في وظيفته الحالية. طالب الموظف بحقه في الحصول على ذلك الشاغر في المؤسسة، ولكن أعذاراً سخيفة حالت بينه وبين تحقيق طموحه.

بعد فترة تم استقطاب شخص من خارج المؤسسة ليشغل الشاغر الوظيفي، ليكون مسؤولاً مباشراً عن هذا الموظف. طُلب من الموظف تعريف المدير الجديد بأساسيات عمل القسم، وعندما قام بذلك، اكتشف أن مديره ليس أهلاً لهذه الوظيفة، فهو ليس حاملاً لشهادة الماجستير الإلزامية، ولم يخض تدريبات تخص مجال عملهم التخصصي، ومن خلال البحث والتحري، اكتشف أنه مقرب من شخص ذي شأن في المؤسسة.

والشيء نفسه طبق بالنسبة للشواغر الأخرى في المؤسسة، حيث تم استقطاب موظفين من خارج المؤسسة، سواء من أصحاب أو أقارب المقربين للمدير، أو من أصدقاء أو أقرباء المدير، وغالبيتهم لا يستوفون متطلبات الوظيفة.

عندما قام بعض الموظفين المغلوبين على أمرهم بمراجعة قسم الموارد البشرية، للاستفسار عن كيفية تعيين هؤلاء الموظفين الذين لا يستوفون متطلبات الوظيفة، تم إبلاغهم بأنه تم تغيير متطلبات الوظيفة لتناسب الأشخاص.. أي أنه تم تفصيل الوظائف حسب سيرهم الذاتية!

هكذا تقوم المؤسسة بإعادة الهيكلة، والمستفيدون هم الأشخاص المقربون من أصحاب القرار، فتستحدث وظائف بتوصيفات وظيفية لا يقبلها عاقل، ولا تكون واضحة الأسباب إلا بعد فترة، والسبب يتضح عندما نجد أنه عند فترة التقييم السنوي، يتم تقييم هؤلاء النخبة من المقربين من صاحب القرار، بامتياز مع مرتبة الشرف، وتتم التوصية بترقيتهم للوظائف الجديدة التي لا تناسب أحداً غيرهم. فالوظائف فصلت لهم تفصيلاً، كمن يفصل ثوباً بقياسات دقيقة لا يستطيع ارتداءها أي شخص إلا المعني به (ينقصها وضع أسمائهم فقط).

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل المحسوبيات أهم من الكفاءات؟ وهل تكفي للارتقاء بالأداء المؤسسي؟ ما قد يكون مثيراً للاستغراب، أنه بعدما يتم تعيين بعض الأشخاص لوظيفة إدارية عليا، يتم إرسالهم لحضور ورشات عمل وتدريبات عملية تساعدهم على أداء الوظيفة.. فعلى أي أساس تم توظيفهم، إذا لم يكونوا يملكون المقومات الأساسية المطلوبة للوظيفة؟

في بعض المؤسسات وللأسف، يتم التغاضي عن أخلاقيات العمل، من خلال تفصيل الوظائف لتناسب الأشخاص، وليس كما هو المفترض من هيكلة الوظيفة وتوصيفها حسب احتياجات المؤسسة واستراتيجيتها المستقبلية.

لقد تأكدنا من عدم كفاءة هؤلاء الأشخاص لأداء الوظيفة، بسبب المقص البارع الذي يقوم بتفصيل الوظيفة حسب مؤهلاتهم المتدنية، ما يدعوني للتساؤل عن الأسباب التي تؤدي إلى قرارات كهذه من قبل المسؤول، هل يكفي تملق هؤلاء الموظفين لنتغاضى عن كل القيم، ولنقوم بإعادة صياغة القوانين واستحداث التوصيفات الوظيفية الواهية؟ هل هو الإحساس الوهمي الذي يحيط به الموظفون هذا المسؤول، من ولاء مطلق وإخلاص مستميت، في حين يجب أن يكون هذا الإحساس موجههاً نحو المؤسسة؟ هل هو إحساس بالمسؤولية من المسؤول نحو هؤلاء الأشخاص، خاصة إذا كانت تربطه بهم علاقة شخصية، بعذر أن الأقربين أولى بالمعروف؟

المقربون من المسؤول يحصلون على امتيازات كثيرة، فهم من تتم ترقيتهم بطريقة خيالية بمعدل سنوي محبط، وهم من تتصدر صورهم الصحف والمجلات بابتساماتهم الواسعة، وتسبق أسماؤهم البيانات الصحافية التي تقدم إليهم جاهزة في قوالب تلمّع إنجازاتهم التي لا وجود لها، وهم أيضاً من يتسببون في زراعة روح التشاؤم المؤسسي بين الموظفين المجتهدين، وخلق بيئة منفرة.

المسؤولية المؤسسية لا تقع على عاتق المدير فقط، الذي قد تتمكن منه مشاعر النشوة والسعادة بالمنصب المكلف به، فيصيبه العمى المؤقت، ويتخذ القرارات، وإن لم تكن في محلها، خاصة إذا كان حديث نعمة وقليل خبرة، ولكنها أيضاً مسؤولية مجالس إدارة المؤسسات، التي لا تقتصر، في رأيي، على العمليات في المؤسسة، وعلى الأداء العام أو المالي، بل تشمل القرارات الداخلية التي قد تؤثر في العمليات والأداء المؤسسي إذا لم يتم تداركها.

ما يميز مؤسساتنا الناجحة عن غيرها، هو قيادتنا المتميزة والاستثنائية. فالقيادي المتميز هو الذي لا يقبل بأقل من معايير الامتياز في جميع من يعملون في مؤسسته، خاصة في بطانته والذين يعملون بقربه.

القيادي العادل هو من يدير المؤسسة بوعي ويترك المحاباة، لأنه مثلهم الأعلى، وهم يستسقون منه أسس الإدارة الناجحة والفعالة. القيادي الحكيم لا يقوم بتعيين الأشخاص لأنهم يشاركونه جلسة سمر، وليس لأن قريبهم في المؤسسة يستقبله في الصباح الباكر عند باب المؤسسة، وليس لأنه يشعر بالشفقة على حالهم، فالمؤسسة ليست مؤسسة خاصة، وليست بالمؤسسة الخيرية، ولكنها مسؤولية وتكليف.

القيادي الاستثنائي هو من يؤمن بأن الولاءات الشخصية لا تدوم، وأن الولاء الأكبر يجب أن يكون للمؤسسة وللوطن.. هو الذي يوقن بأنه حينما يستقطب ذوي الكفاءات حوله والمبدعين والمجتهدين والطموحين، فإنهم لا يشكلون تهديداً له، بل هم حلفه الأعظم للنجاح، فهو سيرتقي بعمله بقدر إنتاجيتهم وبحجم عطاءاتهم وإنجازاتهم.

 

Email