موجبات الدولة المدنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع استمرار الذهنية الفئوية فاعلة بقوة، تنتفي كل أشكال الديمقراطية السليمة، ويهيمن زعماء الطوائف على المجتمع باسم الدين، وزعماء القبائل باسم العصبية القبلية. لذلك يدور العالم العربي اليوم في حلقة مفرغة، بين ذهنية فئوية، تمجد الفرد أو شيخ القبيلة، الذي يتمتع بقوة كبيرة، تفرض السيطرة بالعنف الرمزي، والمادي، وبين ديمقراطية شكلية، أو مغيبة.

لا تمت الدول التسلطية بصلة إلى مواصفات الدولة المدنية الديمقراطية، حيث حافظت على تقاليد القمع الموروثة من مرحلة الحكم العثماني، والسيطرة الأوروبية بأشكالها المتعددة. وهيمنت الأسر والقيادات السياسية، التي احتكرت السلطة في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة العربية الحديثة، على مؤسسات الدولة ورعاياها.

ورغم كتابات المتنورين العرب حول ضرورة قيام الدولة المدنية بشكلها الديمقراطي العلماني في الفضاء العربي، بقيت تلك الدعوة مجرد حلم لم يتحقق في أي من المجتمعات العربية. ومع انفجار الانتفاضات الشعبية عام 2011، باتت الحاجة ملحة لحماية تلك المجتمعات من التفكك والانهيار. وعند توصيف الدولة المدنية في الفضاء العربي المعاصر، لا بد من تحديد ركائز شرعيتها وطبيعة القوى التي تحملها، فالدولة المدنية تستمد شرعيتها من الشعب، باعتباره مصدر جميع السلطات، ومصدر شرعية الدولة المدنية على اختلاف تسمياتها.

وهناك توصيفات كثيرة للدولة المدنية بالمفهوم الإيجابي، فهي دولة القانون، ودولة المؤسسات العصرية، ودولة فصل السلطات، ودولة المواطنة، ودولة العدالة، وغيرها.

وهي تعزز منظمات المجتمع المدني، وتشجع الأحزاب والمنظمات الديمقراطية والليبرالية، وتحترم جميع الأديان، وتضمن حرية ممارسة المؤمنين لطقوسهم الدينية، من دون أن تسمح للسياسة باستغلال الدين لأهداف شخصية أو حزبية أو طائفية.

ومن نتائج الانتفاضات الشعبية المباشرة، أنها شرعت في تغيير وجه العالم العربي، الذي استكان طويلاً لتعسف أنظمة تسلطية مدعومة من الخارج، فشهدت نماذج من الممارسة الديمقراطية، وطورت أساليب جديدة في العمل الديمقراطي، لم تكن معروفة لدى العرب، واستُفتيت جماهير مصر وتونس على دستورين عصريين من أفضل الدساتير التي عرفها العالم العربي. بيد أن مشكلة بناء الدولة المدنية في زمن الانتفاضات العربية ما زالت مستمرة، وتشكو من غياب أحزاب ومنظمات ديمقراطية على مستوى السلطة والمعارضة معاً.

مفهوم الدولة المدنية يتردد في الفضاء العربي من دون أن يطبق، لأن تطبيقه يتطلب تطور المجتمعات على مختلف الصعد الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.

ويتمتع مفهوم الدولة المدنية بمدلولات إيجابية كثيرة، فقد بني على أولوية القانون الدستوري، وحماية التعددية الفكرية والتنوع الثقافي والاجتماعي، وبناء المؤسسات السياسية العصرية، في إطار حداثة سليمة، وبناء مجتمع المعرفة القادر على مواجهة تحديات العولمة، لتصبح أكثر إنسانية، فالدولة المدنية الديمقراطية، تعامل الإنسان بصفته مواطناً حراً في علاقته المباشرة بالدولة والمجتمع.

وتعتبر الدولة المدنية اليوم هي الحل العقلاني لمشكلات العالم العربي المعاصر، بيد أن قيامها في الفضاء العربي، يواجه بعصبية دينية حاضرة بقوة في البنى الاجتماعية العربية، فما زال المجتمع الأهلي في الدول العربية على تناقض مع المجتمع المدني، لأن المجتمع الأهلي غير خاضع بالكامل لسلطة الدولة، وبقي أسير الذهنية القبلية في ممارسة السلطة.

إضافة إلى فشل تطبيق مبدأ فصل السلطات، وتغييب مفاهيم الحرية، والوطن والمواطنة، والسيادة، وحقوق الإنسان العربي الفرد في الممارسة الديمقراطية، علماً بأن قوة المجتمع المدني هي من قوة الدولة المدنية العصرية، والعكس صحيح.

ختاماً، يرتدي قيام الدولة المدنية أهمية استثنائية في تاريخ العرب المعاصر، وخاصة بعد تفجر الانتفاضات الشعبية، التي أسقطت أنظمة تسلطية عدة، وهزت ركائز أنظمة أخرى، وذلك يتطلب معالجة إشكالية الدولة المدنية في الفضاء العربي، بكثير من الموضوعية والعقلانية، فالحلول المرتقبة هي نتاج حوارات مكثفة بين المفكرين والسياسيين العرب، لوضع برامج عملية، تعبر عن فهم عميق لمشكلات المجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، على أن تكون تلك الحلول من صنع المثقفين العرب أنفسهم، مع الاستفادة من التجارب التاريخية، التي تناولت هذه الإشكالية من منظور عالمي.

Email