الهروب من النكد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حياة كل منا علاقات خاصة مهمة، كالحب والزواج والصداقة والعمل، وهي علاقات تمثل لنا «قارب النجاة» أو جسر الأمل للعبور من قاع الوحدة والغربة والحيرة والحزن، إلى الانتماء والمشاركة والتحقق والإحساس بالسعادة. ومع هذا قد تتحول هذه العلاقات أحياناً إلى مصدر نكد لنا، إذ إن البعض منا قد يكون بارعاً في صناعة النكد، بالتلميحات والإشارات والملاحظات، والإهانات الناعمة الخبيثة التي تتلون بين الجد والهزل، أي تنغيص الحياة على الطرف الآخر بمهارة فائقة، دون جلبة أو ضجيج.

وقليلة هي الكتب التي تقتحم حياتنا الخاصة، وتحاول أن تطبطب علينا وتخفف عنا آلامنا، وترشدنا إلى الخروج الآمن من عالم النكد، ولهذا عندما وقع في يدي كتاب «النكد وعنف الانحراف في الحياة اليومية» لمؤلفته ماري فرانس هيريجوين، قررت أن أشارككم متعة معلوماته، وهي طبيبة فرنسية متخصصة في علاج ضحايا النكد، وتنقل لنا تجاربها معهم، لعلها تفيد في تجنب الوقوع في فخ هؤلاء الأشخاص البارعين في التنكيد علينا، وهم يلبسون أقنعة المحبين أو المهتمين، مستغلين حبنا لهم، واحتياجنا إليهم، وثقتنا بهم، وقدرتنا على التساهل والتسامح معهم.

وقبل أن نبدأ، يجب أن نعرف أننا جميعاً بلا استثناء، يمكن أن نمارس فن تنكيد الحياة ضد أحبائنا، لكن هذه الممارسة تكون وقتية وبشكل عابر، وفي ظروف معينة من حالات الغضب والثورة، ولا تكتسب أبداً صفة الدوام والتكرار والتقارب الزمني، وإلا كنا منحرفين نسعى إلى التحطيم والهدم.

وقد لا تخلو علاقة زوجية من بعض النكد، لكن الزوج النرجسي منبع نكد مخيف، فهو يدفع شريكته في الحياة إلى وضع غائم مملوء بالشك وعدم التأكد، يتيح له الاحتفاظ بها على مسافة منه، دون أن يسمح لها بغزو عالمه، ويجعلها رهن تصرفه وقتما يشاء، والوسيلة هنا هي استمرار الهجوم عليها، والانتقاص من شأنها بشكل نمطي، بينما هي تتسامح معه في كل أفعاله، كنوع من الوفاء والاستقامة العائلية، أو تكراراً لتجربة حدثت في عائلتها وهي صغيرة.

وكثير من الأزواج ينقلب بعد الزواج، فلا يكترث لزوجته، ولا يُظهر لها مشاعر الحب والحنان، ويسخر منها أمام الناس، أو يلومها على إنفاقها لشراء ملابس جديدة، وحين تسأله عن أسباب تغيره، يرد بإهمال: مرة أخرى سنعود إلى الأسطوانة نفسها.. والعكس صحيح. أو قصة الزوجة النكدية التي تحمّل زوجها كل «أسباب» الإحباط في حياتها، حتى لو كانت أزمة المرور في الشارع المجاور. أما التنكيد في العمل فهو دوماً من الرؤساء المتسلطين، والضحايا من المرؤوسين الذين يبدون مقاومة للتسلط، والرافضين وضع أنفسهم في خدمة مآرب هؤلاء الرؤساء.

والمدهش في هذا الأمر ليس إصرار رئيس العمل المنحرف على التحقير من ضحيته، وإنما قبول الجماعة المحيطة (من الموظفين) لهذا التحقير لزميلهم، وأحياناً تدعيم هذا النوع من السلوك، مع أن خطر ملاحقة أي منهم بالتصرف نفسه من الرئيس وارد ومحتمل جداً.

وأول حملات الهجوم من الرئيس المتسلط هو تحميل الضحية نتائج الخلاف في العمل، وعدم القدرة على التكيف مع ظروفه.

وأحياناً ينبع التنكيد من وجود رجل بين مجموعة من النساء، أو امرأة بين مجموعة من الرجال، أو تمييز عنصري أو ديني أو اجتماعي، وفي هذه الحالات تظهر نكات ومزاح ثقيل العيار، وحركات مسيئة واحتقار ورفض لكل ما يصدر عن الضحية من سلوك وأعمال وأقوال. وأحياناً أخرى تنشأ صناعة النكد من الحسد والرغبة في حصار ضحية تتمتع بالجمال أو الشباب أو الغنى أو المهارات الفذة، كأن يصطاد مدير قديم شاباً حديث التخرج، معه شهادات علمية لم يحصل عليها هذا المدير، أو تترصد مديرة سيئة الذوق موظفة لديها شياكة وحس راقٍ في اختيار الملابس.

عموماً.. أياً كان نوع التنكيد، كيف نتصرف معه؟

بالقطع يصعب الإفلات من شخص منحرف، والبديل هو اكتساب معرفة جديدة بالذات، تقي ضحايا التنكيد من السقوط في براثن الأمراض النفسية أو الجسدية. واكتساب المعرفة هو أهم خط دفاع عن النفس، وأول خطوة هي ملاحظة سلوك «صانع النكد»، وهو يحاول أن يحمّلنا مسؤولية أي خلاف في العائلة أو العمل، ثم تحليل هذا السلوك بتروٍّ وهدوء، حتى نتجنب الشعور بالذنب أو إرهاق أنفسنا بمتاعب فشل علاقات لسنا السبب في فشلها، والأهم ألا يكون الضحية جزءاً من لعبة الجاني، أو ينحرف بدوره إلى سلسلة من المناورات التي يتصور أنها قد تحميه، فهذا هو ما يسعى إليه صانع النكد.

فالنصر الحقيقي هو عدم السماح لهذا المنحرف بتنغيص حياتنا، بالعمل على إحباط الطرائق العدوانية التي يلجأ إليها، وكذلك بطلب المعاونة من شخص يثق به، أو اللجوء إلى تدخل القضاء والقانون، وفي حالات الزواج يتطلب الأمر إيجاد طرف ثالث وقت حدوث الاعتداءات ليشهد عليها، وفي العمل يجب على الشخص الذي يتعرض للعدوان النفسي، أن يدوّن ويسجل كل شكل من أشكال الاستفزاز.

اللهم احمنا من النكد والمنكدين علينا.

Email