ارتقاء الموظف ارتقاء للمؤسسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال لي أحد معارفي إنه كان في اجتماع مع الرئيس التنفيذي، حين أبلغه أنه هو وزملاءه من المديرين التنفيذيين في المؤسسة سيجدون رسالة فوق مكاتبهم فيها تغيير لمهامهم الحالية. شرح لهم الرئيس التنفيذي الفكرة بأنها نظرية يتبعها اليابانيون لتجديد روح العمل، بتدريب الموظفين على مهام جديدة وتعريفهم على مهام الإدارات الأخرى، بهدف إثراء خبراتهم وإبراز مواضع الضعف والقوة لديهم.

تقبل المديرون التنفيذيون الخبر على مضض، خاصة أنهم كانوا معتادين على أداء وظائفهم ويتقنونها (على حد علمهم). بعد الاجتماع سارع المديرون إلى مكاتبهم ليفتحوا الأظرف ويفاجؤوا بالمهام الجديدة الموكلة إليهم؛ فمدير المناقصات أصبح مدير المالية، ومدير المالية أصبح مدير التدقيق، ومدير العلاقات العامة، أصبح مدير التسويق، ومدير التسويق أصبح مدير العمليات، ومدير العمليات أصبح مدير الإنتاج، ومدير الإنتاج أصبح مدير الإمداد، ومدير الإمداد أصبح مدير المشاريع، ومدير المشاريع أصبح مدير الخدمات المساندة، ومدير الخدمات المساندة أصبح مدير الموارد البشرية ..

وهكذا. أصاب الذهول الجميع بالطبع، ولم يستطع أحد الاعتراض على قرار الرئيس الصارم، ومنهم من حمد الله على أنه ما زال على رأس عمله! توقع الجميع توقف العمل لبرهة، ولكن بفضل الخط الثاني من الإداريين سلمت الجرة، لأنهم هم من قاموا بتسيير العمل لحين قيام المديرين الجدد بالتقاط أنفاسهم.

فكرة التناوب الوظيفي ليست فكرة جديدة، خاصة عندما يؤمن القائد بقدرة موظفيه على القيام بالمهام المنوطة بهم، وأيضاً عند رغبة الرئيس في تجديد معرفتهم في جوانب العمل المختلفة. الفكرة مستوحاة من ثقافة العمل اليابانية، التي لطالما استهوتني بمهنيتها وجديتها وفاعليتها. فرغم الظروف التاريخية القاهرة التي واجهها اليابانيون، فإنهم تغلبوا عليها وصنعوا هوية خاصة بهم أصبحت مضرب مثل للعالم أجمع. كنت أدرس عن الثقافة اليابانية منذ فترة...

فبحثت عن تاريخها وعن مرحلة تأسيسها كإمبراطورية عظيمة، إلى مرحلة حروبها مع الصين، إلى المصيبة التي عانتها من جراء إلقاء القنبلة الذرية في هيروشيما، وحتى انفجار المفاعل النووي في فوكوشيما. ولعل أكثر ما أثارني هو ما كان يتعلق بالتجربة اليابانية في فن الإدارة، الذي يعنى بالفلسفة اليابانية المتميزة التي جعلت هذه الدولة تتقدم جميع دول العالم في الاقتصاد والتقنية بطرق استثنائية..

وتتسلق السلم العالمي لتسبق الدول دائماً. ورغم صغر مساحة هذه الدولة وقلة الموارد الطبيعة فيها، قامت اليابان بالاستغلال الأمثل والتركيز على أكثر الموارد أهمية فيها، ألا وهم بنو البشر. الجميل في موضوع التجربة اليابانية، أننا لو نظرنا في أهم ركائزها، فإننا سنقول إنه بغض النظر عن الناتج وكثرة الإنجازات، فإن خلف كل عواملها الإنسان.

من أهم خصائص الثقافة اليابانية، أن أساسياتها تعتمد على العمل الجماعي والاهتمام المفرط بالمجموعة وليس بالأفراد، وتقديس العمل بالكفاءة، واتخاذ القرارات المبنية على المصلحة العامة. فإذا قمنا بتحليلها أكثر لوجدنا التالي: لدى الياباني حس كبير بالانتماء المؤسسي والولاء، فهو جزء لا يتجزأ من منظومة المؤسسة التي يعمل فيها، والتي تؤمن له الوظيفة مدى الحياة حتى يبلغ مرحلة التقاعد، وخلال هذه الفترة الطويلة لا تخالجه أي رغبة في الرحيل عنها إلى مؤسسة أخرى، لأنه يعتبر ذلك خيانة عظمى.

النظام الياباني يعتمد على المصداقية في التعامل، ويؤثر الكفاءات والمستويات العلمية والخبرات على المحسوبيات، ويقدم السن والأقدمية على الترقيات، ويبني التعاون وتوثيق العلاقات في اتخاذ القرارات الجماعية، ويفض المشكلات عن طريق الحلول الجماعية والمساومة والتحكيم.

الإدارة اليابانية تساهم في إنتاج العامل الشامل الملم بأداء مختلف المهام، من خلال اتباع التناوب الوظيفي والتدريب المستمر على مختلف الوظائف وفي مختلف التخصصات، ما يمنع الاتكالية على موظف معين.

أوجه الشبه بيننا وبين اليابان كثيرة، فكلانا دولتان صغيرتان جغرافياً كبيرتان بحجم إنجازاتنا، وإن فاقتنا اقتصادياً وتقنياً لقدم تأسيسها، فلنا إنجازاتنا ولها إنجازاتها. لا نستطيع تطبيق كل شيء تطبقه اليابان، ولكن نستطيع أن نأخذ بعض ما لديها ونغير منه ما يلائمنا. التجربة اليابانية الإدارية مثالية في بعض الجوانب، ولكن يصعب تطبيقها لأنها تعتمد على الجماعة فقط، ونحن بطبيعتنا يغلب على بعضنا حس الـ"أنا". ولكن إذا نظرنا إلى تطبيق التناوب الوظيفي، فسيكون له عائد كبير على مؤسساتنا.

فمثلاً، التناوب الوظيفي يطبق حاليا على مستوى قيادي فقط، لأن بعض القياديين يرون في بعض الأشخاص ميزات تفيد في أداء وظائف معينة، فيتم تعيينهم لأداء هذه الوظائف، وحين إنجازها يتم نقلهم لإنجاز وظائف أخرى لأنهم أثبتوا مقدرتهم على ذلك.

إذا طبقنا التناوب الوظيفي على مستوى الموظف العادي في المؤسسات، خاصة في حالة الموظفين المهمشين أو غير المرغوبين أو غير السعيدين بوظائفهم الحالية، أو حتى الذين يرغبون في تجربة تحديات جديدة، وقمنا بنقلهم من وظائفهم الحالية إلى أقسام أخرى ليختبروا تجارب جديدة مع مديرين جدد، وليقوموا بتجربة جديدة ومهام جديدة، وقمنا بتغيير الأجواء السلبية التي يعيشونها، بعد تزويدهم بالتدريب المطلوب، فنحن بذلك قمنا بمنحهم فرصة جديدة لإثبات أنفسهم وجدارتهم وقدراتهم، وبذلك زرعنا روح الحب والولاء للمؤسسة. وإذا نجحت هذه التجربة مع هؤلاء، فقد بثثنا فيهم روحاً إيجابية جديدة، وقلصنا حجم معاناة بعضهم وحجبنا سلبيتهم في مؤسساتنا. وإذا أخذنا الموضوع إلى بعد أكبر...

وقمنا بإنشاء قاعدة بيانات للموظفين الحكوميين ليتم التناوب الوظيفي على مستوى المؤسسات الحكومية، فبذلك أنشأنا مجموعة كبيرة ذات خبرة من الموظفين ضليعة بالعمل الحكومي في مجالات عدة، تسهل العمل بين المؤسسات وتنشر روح التعاون والتعاضد والعمل الجماعي. فليس بالضرورة أن نقوم باستحداث وظائف جديدة، بل يمكننا بكل سهولة تبادل موظفين من مؤسسة إلى أخرى، لخدمة العمل المؤسسي والحكومي والوطن، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن الكثيرين يستلمون رواتب في آخر الشهر من دون عمل يذكر.

إذاً، التناوب الوظيفي قد يفيد المؤسسات الحكومية لأنه قد يجعل من موظف ما ورقة رابحة لم تكن في الحسبان، إذا تم استثمارها بالشكل الصحيح في المؤسسة الصحيحة. وسواء كنا في اليابان أو في أية دولة أخرى، فتطوير المؤسسات وتحسين عملها يبدأ من الداخل، وذلك بالاهتمام بالركيزة الأساسية لنجاح أية مؤسسة وهي؛ الموظف. فمتى نعم الموظف بإحساس الثقة والأهمية، ارتقى عمله وبه ترتقي المؤسسة.

 

Email