وقت كتابة هذه السطور كانت قضية ترشيح المشير عبد الفتاح السيسي للرئاسة المصرية قد حسمت، بعد تصريحاته في حفل تخرج بالكلية الحربية في القاهرة، ولم يبق في الأمر سوى الإجراءات القانونية للترشح بعد صدور القانون المنظم للعملية الانتخابية، وربما وقت أن يقدر لهذه الكلمات الظهور إلى النور، يكون المشير قد دخل بالفعل سباق الرئاسة الذي يكاد أن يكون محسوما بالنسبة له فعلا وقولا.
في هذه الأجواء تبدأ الرؤى التحليلية والقراءات المستقبلية، في النظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الآنية، وما يتجاوز السياقات المحلية للجغرافيا السياسية المصرية، أي إلى علاقات مصر ورئيسها الجديد، في الإطار الجغرافي الإقليمي ثم الدولي.
لنا أن نتساءل بداية؛ كيف ينظرون في تل أبيب إلى المشير السيسي اليوم؟ وهل يخشونه أم يرتاحون إليه؟ تجد إسرائيل نفسها في واقع الحال أمام استحقاق مثير، لقائد من قلب المؤسسة العسكرية المصرية العريقة، يجمع في شخصيته حزمة من عوامل التكوين النادرة، بما فيها حنكة ودهاء يتضحان من عدم مقدرة أحد على قراءة ملامح وجهه، ما يجعل منه رجل الغموض البناء والإيجابي في الحال والاستقبال.
تدهشنا المتابعة الإسرائيلية الدقيقة لتاريخ جنرال مصر، ففي 31 يناير المنصرم كتبت "سميدار بيري" عبر صحيفة "يديعوت احرونوت"، تحت عنوان "فيتامين سي سي" تقول: "إنه في إبريل 2010 وضع على طاولة من كان آنذاك وزير الدفاع المصري المشير حسين طنطاوي، ورقة تقدير مذعورة سرية باللون الأحمر، وكانت الوثيقة قصيرة وذات غاية، وكان الموقع عليها قائد الاستخبارات العسكرية.. الوثيقة تقول إنه بعد ثلاثة عشر شهرا ستنشب انتفاضة شعبية تنتشر في جميع أنحاء الدولة.
هكذا حذر الجنرال السيسي مؤكدا أن عشرات الآلاف من المتظاهرين سيغرقون الشوارع ويرفضون الهدوء، وستكون الهبة الشعبية قصيرة تفضي إلى تغيير النظام في مصر..". هل يعني ذلك شيئا ما؟ حتما كان الجنرال السيسي رجلا معروفا للنخبة الأمنية والاستخباراتية في إسرائيل، بوصفه مديرا سابقا للمخابرات العسكرية المصرية.
لكن الرجل بدا وكأنه بالفعل نجم جديد لمع وسطع في سماء الشرق، الأمر الذي سبب اندهاشا واضحا للعامة في تل أبيب، ولذلك صدرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، صبيحة يوم عزل محمد مرسي، حاملة تقريرا مثيرا وبخط عريض "من أنت يا سيسي؟"، جاء فيه أن نجم العسكرية المصرية الجديد، بات ينظر إليه على أنه عبقري وبطل في عيون الجيش الإسرائيلي نفسه، الأمر الذي يكاد يتحول إلى ظاهرة تدعى "السيسيمانيا" على وزن "الإيجبتومانيا" أي الولع بالمصريات، وهي ظاهرة معروفة على صعيد الحياة العسكرية أيضا.
وعلى أي حال فقد أضحت الصحافة ووسائل الإعلام في إسرائيل ترى السيسي "أمير مصر"، وعندهم أنه منذ ثلاث سنوات لم ينجح أحد في تثبيت مكانته كزعيم للدولة الأكبر والأهم في العالم العربي، غير أن الأشهر الأخيرة حملت صعودا ونموا لصورة الجنرال السيسي، الذي ثبت الحكم وحظي بثقة وشعبية في كافة الأوساط والطبقات الشعبية المصرية.
وباستثناء جيوب ضعيفة في أوساط الإخوان المسلمين الذين لا يزالون يعيشون الصدمة المطلقة، لا يبدو أن أحدا يمكنه أو هو معني بتحدي حكمه..
هل يعني ما تقدم أن السيسي خيار مرحب به في تل أبيب؟ الجواب غير محسوم، فالبعض من المراقبين والمحللين الأمنيين على نحو خاص، يؤكدون أنه من مصلحة إسرائيل وجود استقرار في مصر، لا سيما وأن المنطقة برمتها مشتعلة، وحتى لو كانت تمتلك قوة عسكرية ضاربة فإنها لا يمكن أن تعيش على حد السيف إلى الأبد، كما قال "ليفي أشكول" رئيس وزراء إسرائيل صبيحة الخامس من يونيو 67، فاضطراب مصر حتما سيلحق بها أضرارا ويجعل طوق التطرف من حولها خانقا.
غير أن فريقا آخر يؤكد أن إسرائيل وأجهزتها الأمنية تخشى بالفعل من الكاريزما المتألقة للجنرال المصري المحبوب والمرغوب محليا وإقليميا، بل والذي يجد ترحيبا روسيا وصينيا، ما يعني أن المعادلة المصرية ستنحو إلى إعادة ما كانت عليه مصر من وزن استراتيجي وثقل سياسي وأدبي في خمسينات وستينات القرن المنصرم، والنظرة إلى الرجل والمقاربة مع الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، قائمة أمس واليوم.
وعليه فإن كل ما تحلم به إسرائيل اليوم هو استمرار حالة عدم الاستقرار في مصر، خوفا من أن تصبح قوة في الداخل تؤثر على التوازنات السياسية الإقليمية في الخارج.
على أن تقدير صاحب هذه السطور هو أن الجنرال السيسي يخيف إسرائيل والولايات المتحدة وكافة معارضي مصر، لا بقوة السلاح وصهيل الخيل، بل برؤاه وتفكيره العلمي المنهجي، فالعديد من الكتابات والتحليلات الإسرائيلية يقطع بأن السيسي رجل استراتيجيات حقيقية فاعلة على الأرض، لا رجل أيديولوجيات هائمة وشعارات زاعقة ورايات فاقعة.
السيسي رجل خرج من ضيق الأيديولوجيا إلى رحابة الابستمولوجيا، أي المعرفة بمعناها ومبناها في القرن الحادي والعشرين، ولهذا يمثل ظاهرة تستحق التأمل.
ماذا عن رؤية الأميركيين للجنرال الأمير؟ إلى مقال قادم.