مؤتمر باريس والحل العقلاني لدعم لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الخامس من مارس الجاري افتتحت المجموعة الدولية لدعم لبنان مؤتمرها في قصر الإليزيه في باريس، بحضور وزراء خارجية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وشارك فيه وزراء خارجية من دول عدة، وممثل للأمين العام للأمم المتحدة، وأمين عام جامعة الدول العربية، وممثلون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرهم.

انعقد المؤتمر أولا، عشية الاستحقاق المنتظر لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، فهناك تخوف واضح من فراغ في منصب الرئاسة، يؤدي إلى فراغ في جميع المؤسسات التشريعية والتنفيذية شبه المشلولة، على مستوى حكومة لم تستطع إنجاز بيانها الوزاري.

وانعقد المؤتمر ثانيا، على وقع خلاف علني حول إدراج المقاومة في البيان الوزاري، رافقته حملة إعلامية ضد رئيس الجمهورية، الذي وصف ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" بالصيغة الخشبية التي لا تنقذ لبنان. ويعمل بعض القوى السياسية على تجاوز الفراغ الدستوري في حال حدوثه، بالدعوة إلى مؤتمر تأسيسي، وصيغة لبنانية جديدة، ونظام سياسي جديد.

تبلورت في مؤتمر باريس وجهتا نظر: الأولى لبنانية، عبر عنها رئيس الجمهورية ميشال سليمان. فتمسك بإعلان بعبدا الذي اتفق فيه ممثلو الكتل السياسية اللبنانية على تحييد لبنان عن الأزمة السورية، واعتبره بمثابة إنجازه السياسي الكبير الذي يستحق الدفاع عنه.

وتحدث مرارا عن ضرورة الحوار الوطني للتوافق على استراتيجية دفاعية تحمي لبنان، وحض الدول الصديقة على الاكتتاب الفوري في الصندوق الائتماني الخاص بلبنان، وأعرب عن أمله في دعم خطة تسليح الجيش اللبناني واعتماد الاستراتيجية الدفاعية التي طرحها على هيئة الحوار الوطني. ولفت أنظار المشاركين إلى أن الدعم الدولي للبنان لمساعدة اللاجئين السوريين، أقل بكثير من حجم العبء الذي تتحمله الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني.

وجهة النظر الثانية فرنسية، عبر عنها الرئيس فرنسوا هولاند، وشدد فيها على ثلاث أولويات: قضية اللاجئين، ودعم الاقتصاد اللبناني، وضمان أمن لبنان والسماح للجيش اللبناني بالحصول على المعدات اللازمة. ووصف اجتماع المجموعة الدولية لدعم لبنان الذي استضافته باريس، بأنه حدث للبنان ومنطقة الشرق الأوسط والأسرة الدولية.

بدوره، أكد الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة على أن لبنان يستطيع الاعتماد على دعم ثابت من الأمم المتحدة في مواجهة التحديات التي تهدد أمنه واستقراره، وأن المجموعة الدولية لدعم لبنان قد تأسست بمبادرة منه، وستدعم لبنان في مواجهة المشكلات الناجمة عن استمرار الحرب في سوريا. وعبر خطباء مؤتمر باريس عن سرورهم بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وأبدوا استعدادهم للتعاون معها، وطالبوا بالحفاظ على سيادة لبنان، وتشجيع اللبنانيين على الحوار الوطني الذي يحمي لبنان من الانعكاسات السلبية المتزايدة للأزمة السورية. وشددوا على ضرورة تعزيز إمكانيات الجيش اللبناني عبر تقديم المساعدات الدولية الكافية لكي يلعب دوره الوطني.

وتضمنت توصيات المؤتمر عبارات مكررة حول ترسيخ الاستقرار الداخلي في لبنان، وتحييده عن تداعيات الأزمة السورية، وضرورة انتخاب رئيس جديد للبنان في موعده الدستوري، والعمل على توفير الدعم المالي والاقتصادي للبنان من أجل مساعدته على مواجهة المشكلات الكبيرة التي باتت تهدد أمنه واستقراره.

بيد أن الجمل الإنشائية لم تتضمن الكثير من الخطوات العملية على أرض الواقع، فمشكلة اللاجئين السوريين بقيت دون حل، كما أن المعطيات التي قدمها الجانب اللبناني تضمنت أرقاما مخيفة. فقد تجاوز عدد اللاجئين السوريين حاليا 1.2 مليون لاجئ، والعدد مرشح ليصل إلى أربعة ملايين عام 2015 في حال استمرت الأزمة بوتيرة متصاعدة على جميع الجبهات، فيصبح حجم اللاجئين السوريين مساويا لعدد سكان لبنان، مما يستوجب القلق من الانعكاسات المأسوية والكارثية لمسألة اللاجئين السوريين على لبنان، والمخاطر المتزايدة على وجود فرص عمل للبنانيين، مما يضطرهم للهجرة طلبا للقمة العيش.

وبدا واضحا أن حملة الاكتتاب لدعم لبنان لن توفر الإمكانات الفعلية، لكي يستطيع لبنان تحمل أعباء هذه المأساة الكبيرة. ولم تبد الدول المشاركة في مؤتمر باريس، رغبة في تقاسم أعباء اللاجئين السوريين إلى لبنان.

وقد عبر الرئيس ميشال سليمان عن الأفق المسدود لهذه الأزمة بقوله: "إن المساعدة والدعم العالمي والدولي في هذا الإطار، يبقيان أقل بكثير من العبء الملقى على عاتق لبنان، والذي يؤثر على استقرارنا ووضعنا الاقتصادي والاجتماعي، ونود أن نحث المجتمع الدولي على أن يعي مدى خطورة مشكلة النازحين التي تشكل خطرا جوهريا يهدد النسيج اللبناني".

نخلص إلى القول إن مؤتمر باريس لم يقدم ما كان يتوقعه منه اللبنانيون، وليس ما يشير إلى تدفق الأموال لحل مشكلة اللاجئين السوريين، بعد أن أقر مؤتمر الكويت دعما سخيا في هذا المجال لم يصل سوى القليل منه. ويتذرع بعض الدول المانحة بغياب حكومة مسؤولة في لبنان تساهم في وضع خطط تسمح بتقديم مساعدات أكثر، في حين تقدم دول أوروبية وعربية والولايات المتحدة دعما متزايدا لدول أخرى معنية باللاجئين السوريين.

أما الهبة السعودية بمبلغ ثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني، فتحتاج إلى إجراءات عملية حتى تصل إليه، وفي طليعتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري، وقيام حكومة وطنية جامعة، وعودة المجلس النيابي إلى القيام بدوره.

ختاما، لقد شكل مؤتمر مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس، تظاهرة إعلامية عكست رغبة عربية ودولية في حماية أمن لبنان واستقراره، ومساعدته على تجاوز مشاكله السياسية والاقتصادية، والتخفيف من أزمة النازحين السوريين. بيد أن الوعود التي تتكرر من مؤتمر لآخر، لم تساعد على حل مشكلة اللاجئين السوريين التي زادت حدة، ولم تحصن لبنان اقتصاديا وماليا لمواجهة أزمته السياسية المستمرة.

مرد ذلك إلى أن القوى السياسية اللبنانية المتناحرة، لم تقم بالحد الأدنى من واجباتها الوطنية لحماية لبنان واللبنانيين، كما أن حدة التوترات الطائفية والمذهبية فيه باتت تهدد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. فعلى الدول التي تريد فعلا ضمان أمن لبنان واستقراره، أن تبادر إلى خطوات عملية لحل الأزمة السورية سلميا، عبر مقترحات سياسية تضمن وحدة سوريا أرضا وشعبا ومؤسسات، ومواجهة التيارات المتطرفة وليس دعمها بالمال والسلاح، وإيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي الصهيوني وفق قرارات الأمم المتحدة.

Email